مذبحة الضمير والأطفال برعاية من يسمي نفسه «العالم الحرّ» 

تشرين- إدريس هاني: 

ما يحصل الآن في غزّة، لا يحتاج إلى حجج استدلالية، لأنّه أمر مشهود، والمشهود لا يحتاج إلى واسطة في الإثبات. ولا حجة أكبر من أشلاء البراءة الممزعة تحت الأنقاض، والأجساد المفحّمة تحت قصف وحشي لاحتلال يلخّص الشكل الذي ارتضته حداثة السّادة تجاه الهامش، المحكوم عليه بلعنة الخضوع والتبعية.

إنّ العدوان الإسرائيلي على غزّة اليوم ينطوي على القصّة كلّها، قصة الصراع بين الإمبريالية والمنظومة المنكوبة منذ فكّر الغرب في أن يضع مفاهيم التنوير والتحرر على الرّف، واستعادة توحّشه وتصديره نحو المستعمرات، وكانت فلسطين ضحية شروط إمبريالية تمّت بوعد لا أساس له في قواعد الجغرافيا السياسية، بل لا سند له في عرف العلاقات الدّولية، ذلك لأنّنا لن نستطيع إدخاله في إطار اتفاقيات «جنتلمان» نظراً لخطورة القرار، لا يمكن لمحتل أن يُهدي أرضاً لمحتل، فأين تقرير المصير الذي يحدّد مصير شعب أراد البريطانيون يومها بيعه في سوق النخاسة الدولية، وإدخاله لمشروع عصابة ما زالت عاجزة عن هضم مفهوم الدّولة، لأنّها عاجزة عن فهم فلسفة تاريخ الدولة ومنطق ليفياثان، ومقوّمات الدولة؟

لقد أخذ الاحتلال بمنطق القوة والغلبة، والاستعانة بالقوى الدولية التي حاصرت دول الطوق والمنطقة بشروط قاسية حتى جعلتها ترضخ لإملاءاتها. الاحتلال ضعيف في ذاته، وهو اليوم أضعف من أي وقت مضى، لأنّ حُماته يواجهون استحقاقات الإنفاق على الحروب القادمة، التي ستكون مكلفة في سياق العجز الذي تواجهه تلك الدّول.

يسعى الاحتلال للتخلص من الشعب الفلسطيني، من خلال تهجير قسم كبير منه، ليتحول الباقي إلى جالية صغيرة، حيث يحاول تهجير الغزّاويين إلى سيناء أو أي بلد آخر، وسيستعيض باليد العاملة الهندية، إذ إن الهند أحد أعضاء بريكس مستعدة لتصدير اليد العاملة للكيان.

لم يعد الاحتلال يُخفي عقيدة الإجرام في حقّ من اعتبرهم دائماً «غوييم» فهذه ليست وجهة نظر، بل عقيدة عميقة تجعل الكيان خطراً على السلام العالمي. فالإمبريالية منحت لتنظيم عنصري دولة في قلب الشرق الأوسط، وهي اليوم تحصد مخرجات سياسات القهر وفرض الأمر الواقع. هل يا ترى، سينسى الطفل مشهدية الدّم تلك؟ هل الجيل القادم سينسى وليمة الدمار الممنهج واستهداف المدنيين عنوة؟

الاحتلال جاهل بالتاريخ، ولا يريده، لأنه يرى نفسه متعالياً عليه بالعنصرية والقوة التي تحجب عنه سنن التاريخ. وهو جاهل أيضاً بتاريخه الخاص، حيث هو تاريخ فشل في تشكيل دولة. واليوم يدرك العالم ما معنى ذلك الفشل، وما معنى أن يكون الشّتات ضامناً لاستمرر القيم الإنسانية على وجه الأرض.

الإمبريالية التي هي المهد الذي نشأ فيه الكيان، هي نفسها مهد متآكل. لا يمكن للاحتلال أن يصمد دون سند إمبريالي، والإمبريالية اليوم تواجه تحدّي الشعوب والأمم، وهي في حالة دفاع عن مكتسباتها. مصير الاحتلال إذن غير مضمون حتى بالمعايير الإمبريالية. بتعبير آخر: لا يمكن أن تحمي الإمبريالية الاحتلال إلى الأبد.

لا يحتاج الفلسطيني للكذب في مواجهة كيان متخلف ما زال يؤمن بالوحشية ويعيد إنتاج العنف النازي ضدّ مُستعمرته. فالعنجهية التي يظهرها، هي حالة استعراضية مسكونة بالرعب الأبدي، لأنه يدرك أن من يحميه هو الإمبريالية والغرب الذي لن يتحمّل فكرة التحرر في فلسطين المحتلة. لا يحتاج إذناً للكذب، والتزوير، والمغالطة، وهي للأسف بعض أساليب الاحتلال نفسه، لأنّه لا يملك شرعية على الأرض.

ظهور المقاومة كعامل أساسي في معادلة الصراع، أربك الاحتلال، الذي آثر أن يختزل الصراع في مواجهة «حماس»، كما لو أنّ الشعب الفلسطيني يقبل بالاحتلال لولا حماس. هذه المغالطة شاعت في الإعلام المضلل، وهي وسيلة الطابور الخامس في معركة الوعي. إنّ التحرر يؤلمهم، والانتصار يؤلمهم، وبات أُنسهم الأبدي بالهزيمة. المقاومة لا تنتظر إشارة من أحد، بل هي موصولة بإرادة شعب مناهض للاحتلال. كما أنّ التحام ساحات المقاومة ووحدتها، والتنسيق الجاري بين أطرافها، يزعج الاحتلال والطابور الخامس أيضاً، لأنّ الوحدة والتنسيق بين قوى المقاومة يزعجهم، يؤلمهم. لأنّه ينسخ كل تفاهات خطاب التجزئة وأمراض التفرقة وهيستيريا الطائفية، ذلك العظم الذي قدمته الإمبريالية والرجعية مستلهمة من تاريخنا صوراً للعبث بوحدة الأمة ومصيرها المشترك. اليوم ينطوي محور المقاومة على رؤية تتجاوز كل أدواء الأمة في ليل انحطاطها، وهي تتقدّم في التّاريخ، لا لتحقق انتصارات وفتوحاً خارجية فحسب، بل لتحقق انتصارات وفتوحاً داخلية، لعل أهمّها نزع الشّر والكراهية بين أبناء الأمّة، لأنّ حُرّاس الهزيمة والتجزئة هم جزء من عناصر الإعاقة ضدّ انتصارات الأمة.

لقد استطاعت المقاومة ومحورها المتكامل أن يتجاوزا كل شروط الهزيمة، وليس هناك على جبهة معركة الوعي ما يكفي لإيقاف التخلف الذي ما زال ينزع نحو تقويض المكتسبات. المقاومة في الميدان متخلفة، لكن القصور يعتور مسار معركة الوعي، لأنّ هناك من يقرأ انتصارات المقاومة اليوم بعين كئيبة ومنظور جامد، ولم يدرك الفجوة بين الميدان والرّأي.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار