الذكاء الصناعي في زمن التّفاهة

تشرين -إدريس هاني:
أحسست بالسعادة وأنا أتقاسم بعض تأمّلاتي حول الذّكاء الصناعي وسؤال الأمن السيبراني بدعوة كريمة من الأكاديمية العسكرية للعلوم الأمنية والاستراتيجية، والقيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية، في مؤتمر ليبيا الدولي لمكافحة الإرهاب السيبراني المنعقد في بنغازي.
هذه السعادة التي تترك عادة شيئاً من حتّى في النفس، لأنّ الزمن الموضوعي لبناء مفهوم أو تفكيكه، لا يسعه ما تجود به إجراءات الملتقيات العامرة.
شهد اللقاء الكبير تبادل آراء مهمّة، بعضها وفيّ للمقرر في التكوينات، بعضها مدفوع بروح المحاولة، وآخر مدفوع بنزعة آنارشية وفيّة للمنعطف الثوري في علوم الإنسان والطبيعة معاً، أي التفكير ضدّ الدّماغ بتعبير غاستون باشلار، وما التفكير ضد الدماغ سوى محاولة جذرية تدخل في صميم مشروعنا حول التّبني الحضاري والتجديد الجذري المعزز بعبر-مناهجية تأخذ بعين الاعتبار والتشريح وخرق التخوم بين العلوم واللاقياسية، فوجب التذكير بخلفيات مقاربتنا للذكاء الصناعي، من حيث أنّ الجرأة على التفكير ضد الدماغ تمنحنا شرعية التفكير ضدّ الذكاء الصناعي نفسه، باعتباره مكسباً لكائن، لطالما نظرنا إليه في ضوء فكرة “المذهلون الأربعة”.
ففكرة تمكين اليد من بلوغ الأشياء والتحكم في الجسد وتخارج الذات وتموضعها في العالم الخارجي، اليد بما ترمز إليه من القوة وأيضاً الامتداد: اليد الطولى، مبسوط اليد…والأهم، اليد بالمعنى الهيدغيري الذي يلخّص تاريخ اليد بوصفها ليست فقط جوهراً جسمانياً مستقلاً عن الجسد، إمعاناً في التميز والمهارة، بل إنّ التفكير لا يستقيم ولا يتحقق إلا باليد، إننا نفكّر بأيدينا، هذه الفكرة ظلت حاضرة بقوة ولا تزال.
واكب هذا الحلم، للأربعة المذهلين، بل حتى مفهوم اليد القاتلة التي تنفرد وتستقل عن الجسد في الأعمال الكوميدية التي تنطوي على ذُهان التفكير باليد وفي اليد، فالمقاربة التي نويت تقريرها تتعلق بمصير اليد المبسوطة، البيغ-داتا نفسها التي ترمز إلى هذا البسط والامتداد، من الدماغ الذي ينقل مهمّة الحافظة إلى الخارج، لينتصر على قصوره الذاتي بذاته.
أن نفكر ضد الدماغ، أي أن نفكر ضدّ الشرط البيولوجي للدماغ، ليس من حيث تكوينه، بل من حيث عاداته التي اكتسبها بفعل التفكير نفسه، فالدماغ هو الآخر خاضع لنمطية ردّ الشرط البافلوفي، وحين يعتاد الدّماغ على نمط من التفكير، يكتسب عادة، ويكون ردّ الفعل الشرطي غالباً الكسل والانفعال البافلوفي، يجعل أدمغتنا تقترب حسب الاستسلام للرتابة، من دماغ كلب خاضع للمثير الخارجي. وهذا ليس غريباً، إنّ بلعم بن باعورا، ونظرا لهذه الرتابة، وُصف وكأنه الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
ولعل المناسبة هنا هي نحت مصطلح الذكاء الصناعي الباعورائي، والذي ليس سوى امتداد للبرمجة، من منطلق أنّ الذكاء الصناعي الذي سبق أن وصفته بالغباء الصناعي، وسأكتشف أنّ لوك جوليا فعل الأمر نفسه في توافق يعزز الثقة في الوصف، وذلك لأنّني أعتقد أنّ الذكاء الصناعي لم يأخذ من وظيفة الدماغ سوى وظيفة محدودة من جملة وظائف الدماغ، يمكن رصدها من خلال فعل الحافظة.
سأتوسع أكثر في هذا الأمر فيما أشتغل عليه الآن، ولكن أحببت أن أُهوِّن من رُهاب الفضاء السيبراني، لأنّه رُهاب ناتج عن العنف الرمزي الذي تقوم به البروباغاندا، ومن الطريقة التي نقدم بها هذا الفينومين إلى الاستهلاك العمومي. فمن أدرك الرياضيات وطريقة اشتغالها وانشحن ذهنه بلغتها، لن ينظر إلى هذا الحدث إلاّ كنتيجة للتطور وليس كانقلاب أسطوري، لأن وظيفة الـ(chat-Gpt)، هي دائما كانت وظيفة جزء من الدماغ، وإنّ هذا المُعالج الآلي للمعلومات، لا يمتلك المشاعر الكافية التي هي جزء من التفكير، فالفكر الطبيعي البشري هو حصيلة تفاعل متعدد، لنقل بكل مستويات الوعي بالمعنى الهيغلي، من حدس وانفعال وعقل، وهذا غير ممكن في حقّ المُعالج الآلي. لقد قمت باستفزاز الـ(chat-Gpt)، فكانت ردود فعله صفرية، وهي لا تتعدى ردود فعل شَرْطِية ميكانيكية، عَلَفُها الأساسي هو البيانات التي تحتوي وستحتوي دائماً خليطاً مرعباً من المعطيات الصحيحة والمُضللة.
هنا نسعى للدفاع عن أصالة الذكاء الطبيعي، لكي لا نقع في فخّ البرمجة، حيث بدأت سلطة الماركوتين منذ البداية، تمنح للبرمجة العصبية للتسويق، وظيفة مهيمنة على مدارك روح الأشياء في هذا الحدث الذي لايزال جنينياً، من حيث إنّ مقتله هو في طبيعة الداتا نفسها، تلك التي تحدد وظيفته، وهي جُماع البيانات التي مهما اتسعت مساحتها، لا تتجاوز السنتين أو الثلاثة ما قبل عامنا هذا. فهل يملك الذكاء الطبيعي حدساً كافياً لخرق قواعد الاشتباك في عملية التفكير؟ هل يملك حدساً لاستشراف المستقبل؟

على هذا الأساس، أكدت أنّ الأمن السيبراني لا يستغني عن الذكاء الطبيعي، بل إن فعل الخرق الدائم للقواعد في التفكير وحضور الحدس مسألة أساسية. وبما أن الذكاء الطبيعي هو رهينة للنزعة القياسية للدماغ الطبيعي نفسه، فاليد المبسوطة لا تفعل سوى أن تمدد من هذه النزعة. وعليه، فإنّنا أمام صراع حقيقي، ذلك لأنّنا نصل في الموعد نفسه في رحلة القطار السريع، الإرهابي نفسه يستعمل الإمكانات السيبرانية نفسها، كل شيء هو في نهاية المطاف ضرب من الخوارزميات: الأمن خوارزميات والإرهاب خوارزميات أيضاً، لكن ما أؤكد عليه هنا هو أنّ الإرهاب الأخطر، هو الإرهاب غير الموصول بالشبكة، ولنا أمثلة كثيرة، ليس أغربها عملية سمهروش بالمغرب، الذكاء الصناعي لا يتعامل إلاّ مع الموصولين بالشبكة، فماذا عن الإرهاب الكامن خارج الشبكة، عن الذئاب المنفردة، عن الإرهاب المحتمل؟
لعل الأهم في كل هذا، هو كيفية تدبير علاقتنا بالذكاء الصناعي في زمن التفاهة. فالإرهاب نفسه يلخّص عنف التفاهة وتفاهة العنف، ما الذي سيحققه الذكاء الصناعي كمساعد للذهن البشري في مرحلة انتقالية محكومة بالتّفاهة؟. لعل بعض مؤشرات التفاهة التي سيلعب فيها الذكاء الصناعي دوراً بارزاً هو ضمور العقل وتراجع الذكاء البشري نفسه. ليس مهماً أن نساعد البروباغاندا بمُغالطة البيانات التي تُستعمل بنحو من التكرار، لتُؤسطر شَأْنِية مُعالج آلي مازال يعاني من القصور والإعاقة، وهو في هذا المهرجان الاستعراضي يذكرنا بالذهول الذي أبداها أجدادنا إزاء المذياع، صحيح أنّ التحدي السيبراني يستهدف الفئة العمرية الشبابية، لكننا ننسى أنّ من فجّر هذا الذكاء الصناعي وأخرجه إلى التداول والاستعمال العمومي هم أطفال: بدأ “بل غيتس” مغامرته اللّعبية في حدود 13 عاما، وكذا زملاؤه. كل حدث حضاري هو لعبي موصول بمهارات الإنسان في بُعده الموسوم بالـ(Homo ludens)، اللّصيق أيضا بسائر الأبعاد والمهارات للإنسان العارف، والصانع، وما قبلهما. ثمّة ما يثير حالة الدهشة في دماغنا الطبيعي حيال منتوجاته، إنّه الرّأسمال وسياساته.
ثمة جوانب كثيرة مما كنا نأمل التفكير حوله بصوت عالٍ، وسوف نقدّمه قريباً في عمل متكامل، فابقوا معنا.
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار