ثمة معركة وعي كبرى

تشرين- إدريس هاني:
بات القتل لأهالي غزة عادة، الأطفال يولدون من جديد من رحم التراب والأنقاض، شعب عظيم وحتى أطفاله من جنس العمالقة، هل يوجد ضمير بعد اليوم لم يذرف دمعاً على حرب الإبادة؟
الغرب، إذ يبدي خوفه على الاحتلال المُدلّل، هو يرفض استقبال اليهود في أي مشروع ترانسفير معكوس أو عودة إلى أوروبا، لأنّه سيصنع لهم محارق أخرى، هذا الخلط الفاحش بين الديانات والاستعمار والشعور بالذنب، مغالطة تاريخية وشعوذة سياسية، تستدعي موقفاً عنصريّاً من أبناء الأرض الحقيقيين والاستهتار بتاريخ الشعوب.
لقد أثبت الغرب أنّه لا يحتفظ بشعور الذنب من المحرقة، بل هو يعاقب الفلسطينيين، لأنّهم قاوموا لعبته الامبريالية، وأرادوا حلّ مشكلتهم العنصرية ضد اليهود في فلسطين التي لا ترفض اليهود الفلسطينيين، لكنها ترفض الاحتلال والاستيطان.
لم يعد حجم الدمار في غزة قابلاً للتّحمل، لقد سقط الضمير الأممي، ولولا الضغوط وما يدركه الاحتلال ومن يسانده من القوى العظمى من تداعيات أي تدخل برّي وتداعياته الإقليمية والدولية، لكانوا أخرجوا أهل غزة من ديارهم، فالقوى المساندة لغزة جادّة في مواجهة أي تطور جديد.
يتساءل العديد من المراقبين، وأغلبهم يجهل تفاصيل التنسيق بين أطراف محور المقاومة، ومن يجهلون فنّ الحرب وقواعد الاشتباك والإطار الجيواستراتيجي للحرب، بأنّ غزة تُركت لحالها في هذه المعركة، والبعض يذهب بعيداً للقول إنّ محور المقاومة تخلّى عن غزّة، وآخرون يذهبون أبعد من ذلك في القول إنّ هناك توافقاً بين طهران وأميركا على استدراج حماس لهذه المغامرة.. قصص وحكايات قريبة من حكايات لافونتين، وهي ليست تحليلات استراتيجية، بل هي ضرب من أقاصيص ألف ليلة وليلة، لكنها أفكار تريد أن تخترق وحدة الساحات، وتستفز الأطراف لكي تبوح بخططها، إنّ صمت المقاومة يثير قلقاً في الطابور الخامس للاحتلال، بعض الاستشكالات التبسيطية تتجاوز المعطيات الخِبْرَوِيَّة لمن هم في الميدان يدبرون تفاصيل الحرب، المقاربات التي تدخل في إطار «الميديوغالطة» لا تتوقف، بل تتسرب كبقّ الخشب، لتلسع اللاّوعي الجمعي.. إنها معركة الوعي، التي تعتمد نشر الكراهية والكذب.
لا يملك الأغراب عن تفاصيل المعركة، فضلاً عمن هم طرف في المعركة ضدّ الوعي التحرري، أن يفهموا ما يجري في قلب معادلة الصراع في الشرق الأوسط، كما يجهلون سُلم الأولويات في معركة لها مبتدأ وخبر وبينهما ما بينهما من غرائب الخطط وبدائلها.. إنّ المعركة الحالية، ليست معركة حسم، الحرب تأخذ بعين الاعتبار الإمكانات والشروط والمعطيات وموازين القوى، ولا يمكن من خلال تصريحات دبلوماسية لوزراء الخارجية أن نستنتج أحكاماً نهائية، حيث تدرك الدول العظمى ثِقل الرسائل التي انطلقت من طهران، لأنّها غير قابلة أن تفسّر بالمنطوق المسطّح، بل هي تنطوي على مفهوم مقعّر، ومن هنا تحركت الأساطيل، وباتت الحرب، بسبب هذه الرسائل ذات بُعد إقليمي ودولي.
ليست هذه معركة حسم، بل هي معركة أضافت إلى رصيد المقاومة الفلسطينية أوراقاً مهمّة، حيث العمل قائم على إيقاف الحرب العبثية على غزة، باعتبارها ليست حرباً مشروعة بالمعايير الدولية.. إنّ وقف الحرب هو إعلان انتصار المقاومة الفلسطينية، وهذا هو التحدي الذي يواجه الاحتلال، الذي تضخمت تناقضاته، فإيقاف الحرب معناه تطور الصراع داخل مجتمع الاحتلال، والصورة النمطية لاحتلال يقوم بتهجير الأهالي انتهت، بل أصبحت المقاومة تفرض على مجتمع الاحتلال النزوح.
لقد باتت المعادلة معقدة، فالاحتلال يملك قدرات تدميرية فائقة، لسبب بسيط، وهو أنّه يتوفر على مخزون قابل للزيادة من الذخيرة الحربية، لكن بنيته هشّة، وسقوطه سيكون من خلال المزيد من الضغط الذي يدفع به نحو التفكك.. إن دور المقاومة ليس حسم الحرب، بل وظيفتها جعل الحرب مستحيلة، حيث تصبح حرباً بلا هدف سياسي.
دول الطوق في حالة استنفار، ولا شكّ بأنّ أي تطورات جديدة في الحرب قد تكون لها عواقب خطرة، ومنها أنّ الصين التي بعثت أسطولاً ضخماً إلى الشرق الأوسط، ستكون لاعباً جديداً، فضلاً عن روسيا.. إنّ قصفاً مدفعياً قرب مصر لا يقف عند اعتذار الاحتلال، بل هذا هو ما سيقع باستمرار حين تتسع دائرة الحرب، حيث ستجد مصر نفسها في قلب المعركة، وإذا دخلت مصر المعركة، فالعالم العربي لن يعود أمامه خيار، أمّا كيف تدخل مصر المعركة، فالأمر لا يتعلق بالمقاربات النمطية أيضاً، فالحرب تحمل معها مفاجآتها، وهي تفرض استحقاقات جديدة على المعادلة الإقليمية.

الحرب على غزة تجاوزت الغرب الأدنى، وهي موصولة بالتحولات الإقليمية والدّولية، فالاحتلال لم يلتزم بأي اتفاقية مبرمة، بل ظلّ وراء كل الخطط التي ترمي إلى محاصرة مصر وتحجيمها، كما أن الاحتلال مازال يقوم بغارات على الأراضي السورية واللبنانية.. إنّ الاحتلال يدرك أنّ محور المقاومة يلفّ حول عنقه خيطاً رفيعاً، وهو يقوده نحو مخاض من الصراعات الداخلية، التي تزداد بفضل المقاومة، كما يعمل الاحتلال على إعادة تمزيق المنطقة، وقد حوّل فلسطين المحتلة إلى خريطة ممزقة، إلى جدران عازلة.. إنّ الخطر الجيواستراتيجي للاحتلال تجاوز فلسطين ليصبح تهديداً للمنطقة وللاستقرار الدولي.
لقد حاول الاحتلال أن يلعب على شتّى العناوين في مخطط الزيف الذي تنهجه وسائطه، فهو يريد محاصرة المقاومة الفلسطينية من خلال خطاب التنميط، الخطأ الجسيم الذي سقطت فيه المنطقة قبل أن تدرك أنّ هذا الوباء سيلتف على أعناقها، وحتماً سيتكرر التحليل النمطي نفسه، «المقاومة إرهابية» والاحتلال في حالة دفاع عن النّفس، غير أنّ الأيام وحدها ستؤكد ما جهله أو تجاهله القوم، حينئذ ستظهر حقائق ما لم يستطع عليه المستعجلون صبراً.
غزّة هاشم الشهيدة والشاهدة على المنعطف التاريخي الكبير، لانتصارات ما فتئت تتراكم، لتصنع النصر الأكبر، سيُسجل التاريخ كلّ هذه النكبات، وكل صور الصمود، هل يظن الاحتلال ومن يستهتر بالضمير الإنساني أنّ للاحتلال مستقبلاً بعد كلّ هذا الخراب؟ إنّه يعيش على سبيل الهدر التّاريخي، وأصبح عاجزاً عن وضع خطّة بديلة، هو اليوم أسوأ وأكثر هشاشة من نظام الفصل العنصري.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار