قُل.. من يسوغ للاحتلال عدوانه؟
تشرين- إدريس هاني:
يبدو أنّ المشهد بات معقداً حدّ استحالة التنبؤ بما سيترتب عليه من أحداث، أحياناً التباس المستقبلات هو مؤشّر على التحول النوعي في مسار الحرب، فالعدوّ لم يعد يملك رؤية مستقبلية سوى ذلك الاحتمال المفرط لعودته إلى المربع الأوّل بدل بناء الهيكل الثالث، أعني الشّتات، فقد لاح عهد الترنسفير المعكوس.
لقد كانت المقاومة الفلسطينية تستند إلى حدسها التّاريخي واعتقاد الفلاح وحلم الطفولة الفلسطينية، كما أجاد ناجي العلي اكتشاف أيقونتها في شخصية حنظلة، ما زال الأطفال يكبرون بأقاصيص الجدات التي تحوّلت إلى قوة المشاعر الخالدة، مازال الجميع يلتفت ببراءة ويقين إلى الأرض السليبة، إنهم يحلمون بالعودة، وهناك أمم تحلم معهم، وهذا الحلم لا يمكن تقويضه بلعبة القوة والعنف المفرط، حنظلة أقوى من القنبلة النووية، إنّ للإمبريالية زمناً موضوعياً للتحلل، ويبقى حنظلة شاهداً على دياليكتيك الروح المطلق.
حينما تُصبح القضية تتعلّق بكفاح شعب، نتجاوز طيف العنتريات الأيديولوجية، ونمسك بالمشترك الإنساني وبمنطق التّاريخ.
وستظهر لا محالة على الهامش، نوابت متصهينة في ربوعنا العربية وعلى امتداد العالم الإسلامي أيضاً، تتلوّى في تسويغ همجية الاحتلال، وبأنماط من المُغالطة تزول منها الجبال، في لحظة الحصار والتدمير وقتل الأطفال، يلوذ الخونة بمضغ التفاصيل العارضة، ويمنحون الأيديولوجيا مكانة تفوق الإنسان، بل أحياناً يقومون بنشل المفاهيم الإنسانية واستعمالها ضد الإنسان، ولعل من مؤشّرات الهمجية والخيانة، نفث الحقد على أمم مكافحة، والإصرار على مضغ المغالطات في زمن التحدّي، وفاء عميق للاحتلال.
سنكون مبالغين إن نحن استعملنا عبارة المتصهين من العرب والعجم، لأنّ هؤلاء، هم في الحقيقة عبيد و(خمّاسة) عند وسطاء أكبر شأناً منهم، فحينما تجد مجهولاً تافهاً يحمل همّ الدفاع عن الاحتلال وتسويغ جرائمه، فلا يهمّك ترديده إنشاءات تقادمت في تاريخ المضغ الأيديولوجي، بل قف عند هذيانه، وانظر إن كان ممن زحف كالأفعى الرقطاء نحو دكاكين الرجعية، أو نال منهم ما يُقيم أَوْد مواقعه، مثل هذا نجده في سوق النخاسة العربية، وحتى في إيران تسقط دعوى منشقيها، ويخرسون أمام مشاهد الكفاح الفلسطيني، لأنّهم جزء من عبيد الصهيو…نية، وحين نقول إنهم عبيد في مسلسل طويل، فلأنّني أعتبر أنّ الاحتلال هو خدعة رهنت عبيد خازريا لتنفيذ مشروع إمبريالي، قادته في مكان آخر، إنهم بدورهم طعم في مخطط قديم.
يكتب الروائي الطّاهر، مقالة تافهة في موضوع حول ما تعانيه فلسطين اليوم، يصطف بتفاهة في جبهة التضليل الإعلامي، ليقول مثل من سبقه إلى العنوان المقرف إيّاه، مقالة تدين المقاومة الفلسطينية، وتذرف دموع التماسيح على الاحتلال، ويصف المقاومة بالحيوانية، والحق، لا يوجد ما هو أبلغ في الحيوانية من فاسد ضمير، يتملق للاحتلال، بينما أحرار فرنسا يتدفقون إلى الساحات تضامناً مع الضحايا الذين يواجهون القصف من قبل الاحتلال.
إنّ الاحتلال لا يحترم أحداً، وهو لا يخفي احتقاره للعرب، ويستخف برموزهم كما يفعل عبيده بالوكالة عنه، بمن فيهم النشالون الصغار، الاحتلال لا يستخف فقط بالفلسط.. ينيين، بل هو يستخف حتى بمن يؤجر حنكه للدفاع عن جرائمه.
يذهب ألكسندر دوغين إلى وجود شلل في المواقف من شدة قوة العملية، ولهذا السبب وعلى الرغم من وجود منقسمين من داخل روسيا أو أمريكا بخصوص ما يجب فعله، حيث يوجد في كل موقف إيجابيات وسلبيات، فإنّه «ليس من الواضح على الإطلاق ما يجب عليهم قوله أو فعله».
وعلى ذكر دوغين، فإنّ اتجاه الرأي في روسيا منقسم، نظراً لأنّ اليمين الصه..يوني يلتزم شكلاً من الحياد بخصوص الحرب في أوكرانيا، لكن هذا يؤكد لنا كعرب، أنّ الاحتلال لا يمكنه استفزاز روسيا، وبأنّه يدرك نقاط ضعفه، ولاسيما أنّ سلاحه النووي غير قابل للاستعمال.
نعود إلى ما يمكن توقعه من خلال المؤشرات التي بدأت تتراكم أكثر. فالاحتلال عازم على إنقاذ ماء الوجه، بينما الحلف الغربي غير واثق من نتائج حرب مفتوحة. لا يستطيع الاحتلال تحمّل حرب مفتوحة. وما في حوزة المقاومة وحلفائها يستطيع إصابة آخر نقطة في كيان الاحتلال. وأنّ كمية السلاح ونوعيته وحجم الداتا التي يملكها محور المقاومة، يفوق ما كان في يد العرب في حرب أكتوبر.
يسعى الاحتلال من خلال إرهاب المدنيين أن ينقذ الصورة التقليدية لكيان يملك المبادرة بالحرب وحسمها وجريانها خلف حدوده، هذه الصورة تهشمت، كما أنّ طوفان الأقصى غيّر التموضعات التقليدية داخل المنتظم الدّولي، ما دور المقاومة إذاً، سوى أنّها مخلوق وُجد للتحسيس بقضيته وتقويض فكرة التقادم أو تلك العبارة المشؤومة التي قرأناها في نص للروائي – الرِّواية – المتملُّق: ( le 7 octobre 2023; la cause palestinienne est morte) – الـ 7 تشرين، القضية الفلسطينية ماتت – في أسبوعية (le point) المحسوبة على اليمين الوسط، وهو عنوان تافه، يصلح لخيالٍ مُنهزمٍ، غير قادر على تصور معنى التحرر، ذلك حين تصطدم أكذوبة الحرية الفردية النَّزَّاعة للانتهازية مع التحرر الوطني المُكلف والمزعج لجماعات المصالح.
سيموت الاحتلال ولن تموت قضية سُقيت بدماء الشهداء الأحرار والأطفال، هذا عنوان عبيد الفرنجة، إذ كلّ تلك المسودات مضافة إلى كونكورد، لا تساوي عبارة ينطق بها طفل فلسطيني تزرع كل الدنيا كرامة. إنّ فلسطين اختبار، لكل الأحرار، هي قضية مصير كوكب برمته، هي قضية أنطولوجية.