مأزق التّفاهة وصيرورة العقل
تشرين- إدريس هاني:
الصنائع تُنمِّي العقل، هكذا يشير ابن خلدون، أو بالأحرى يذكرنا بشيء أكثر وضوحاً اليوم، ألا وهو التأثير المتبادل بين العقل البشري والتقنية. لكن المعرفة المستهلكة عبر تاريخ الأفكار، لم تكن يوماً معرفة علمية بالضرورة، بل هي خليط من مستويات الإدراك، لا يوجد جدار مانع. استهلاك المعرفة من دون معرفتها، بتعبير إدغار موران. ثمة إشكاليات تطوّح فيها الفكر الفلسفي: الوعي، العقل، المعرفة، الذاتي، الموضوعي، العلم… تتراجع حماسة فيلسوف العلم أو المدرك لمعضلة المجال الفينومينولوجي والأنا الترانسنتالي، في كل محاولات تجاوز المعضلة الكانطية وإشكالية «النومين» تتراجع الحماسة إلى حدّ التشبت بالوعي القصدي. يدرك فيلسوف العلم من بوبر إلى لاكاتوس معضلة تبسيط العالم، لأنّ التبسيط هو سبب خراب العمران البشري.
للتفاهة عمر ككل الظواهر، ولعلها أشبه في وظيفتها بفيروس عاجز عن الحركة وإنتاج اليخضور، من هنا تطفله على الخلية وتمثّل عناصرها عبر الاختراق والتنكر، وفي النهاية تدمير هيكل الحقيقة. كما الفيروس الملازم لكل أطوار الحياة، فالتفاهة تحضر، تموت وتنبعث، لكنها أحياناً تنمو وتتطور، فتكوّن الطواعين والمسغبات.
تحمل التّفاهة همّ بقائها، لأنّ الذكاء البشري سيقضمها عبر تراكم تناقضاتها، كما الذكاء الصناعي يغريها لكنه يستدرجها نحو مكر التّاريخ، فالتفاهة ليست «فينومين» صامت، بل هي ظاهرة متفجرة بالمغالطات، التفاهة هي عنوان ضحالة الوجود، وهي تشارك الكائن قلقه الوجودي، لأنها مهجوسة بفكرة الموت. لكنها أيضاً تأمل كما يأمل الكائن، هي أيضاً تأمل بالعود الأبدي، بتكرار التفاهة. نحن أمام دالّة تقابلية (Bijective).. لا أتحدث عن العوالم المفارقة، بل التفاهة تسكن الأحشاء. الحاجة ماسة إذاً إلى استراتيجية المسافة، نحتاج إلى أن نأخذ بعين الاعتبار مأثورة فرنسوا جوليان، المسافة ضرورية كي نفهم، التشريح أو وظيفة القصّاب، ينفذ بمُداه بين اللحم والعظم، كي نصنع المسافة، كي نفهم.
حتى الآن لم ينصح الأطباء بوسائل العلاج من الورم الذي تحدثه التفاهة، حيث العلاج يقتضي تطبيقاً ذهنياً يحولها إلى فرجة ماتعة أو سمجة، أمّا الإبستيمولوجي فعليه أن يضع طوع البنان خوارزميات جديدة، نافعة، ذكية، للإطاحة بغباء التفاهة وخوارزمياتها التي ترعى على الشعبوية ومنتوج «حتّة» مهملة من الفص الأيسر للدماغ. أين نحن من التفكير الباشلاري ضدّ الدماغ. الواقع يهرول نحو اللانهاية، والأيديولوجيا في عصر التفاهة تغرقنا في صبيب ملتبس ورمادي، كضرب من التوريط التّاريخي، يكتمل الواقع في ذهن الأحمق فيعلن نهاية التاريخ والمعنى والواقع.
تُكسِب الأيديولوجيا الحيزبون -التي طلقت العلم ولم تدرك مكامنه- تُكسِبها جرأة لا نظير لها. النَّفَس الطويل للتفاهة ومكرها الكبير يقوّضان الراحة البيولوجية كشرط لاستئناف وظيفة الدماغ خارج التورم الأيديولوجي.
الأيديولوجيا حقّ، لكنها مُعرّضة للمَسخ، متى تحوّلت إلى مصفوفة من الشعارات الموصولة بفقر الخيال، زمن التفاهة الذي شغل العديد من قادة التفكير في عالمنا المُعاصر، هو عالم غَيَّر كلّ المفاهيم، بما فيها فلسفة التاريخ، بل العلم الذي تردّى حتّى فقد ماهيته ووظيفته، إن كان كل أمر بما فيه الفكر ينحل في نهاية المطاف إلى حساب، هوبز، نيتشه.. لنجرّب أن نُحَسْبِن ما تُنتجه الأيديولوجيات الجرباء، حتماً لن نجد معنى، لا في لغة «جامع الفناء» ولا في لغة الرياضيات.. إن الأيديولوجيا مهما تدانت و«تخنخنت» لن تموت، لسبب بسيط، لأنّ التفاهة لا تموت، والمُغالطة لا تموت، في عالم محفوف بالجراثيم الفكرية والبيولوجية، هذه الأدمغة التي فيها قام مجدنا بين الخلائق، لا نستحق أن نحملها في رؤوسنا، الأوْلى ثم الأوْلى أن نضعها «جزمات» نخطو بها نحو الفناء، وعليك أن تحسب حجم التفاهة التي أثقلته في الميزان. أخشى أن يكون الدماغ في شروط بؤسنا وتفاهتنا قد أصبح يُفكّر ضدّنا.
السؤال الأهم: من أين اكتسبت التفاهة سلطتها، وهل التاريخ يُلاعبها إلى حين؟.. بالفعل، نحن نواجه في قلب الطاعون، لكننا، كالزومبي، فقدنا الوصل بالحسّ المشترك.
كاتب من المغرب