محاولات لإحيائها.. عمارة البيوت الطينية هروبٌ من أوهام الحداثة

تشرين- حنان علي:
يطوف الصيف حولها، لكنه أجبن من الدخول، الشتاء بدوره! جدران بيوتهنّ ناصعة البياض عابقة بالغار، تجوب حول أعمدتها العرائش، مترعة مصاطبها بالجوري والريحان.. لا النسمات تخطئ لها عنواناً ولا يتوه عنها التراث، ما لبثت بيوتهن الطينية أكثر حناناً من بيوت الأبناء والأحفاد، بيد أن الجدات رحلن وهُجرت مساكنهنّ بعدما ألقتها جانباً الأبنية متعددة الطبقات، مفرجة عن أسر القيظ، داعية الشتاء للتسلل عبر أحجار (خفانها).
البساطة وانسجام الإنسان مع الطبيعة في عصور ما قبل التكنولوجيا والصناعة والتلوث البيئي والسمعي والضوئي، هذا ما تعكسه المنازل الطينية بنمطها المعماري المحلي وعناصر تصميمها الفريد وزخارفها وأقواسها. تاريخٌ عائد للحضارات الأولى واشٍ بالتقاليد العريقة، ذلك منذ عهد السومريين والسبل المميزة لبناء منازلهم ومعابدهم إلى قصور الآشوريون بتحصيناتها الضخمة باستخدام طوب اللبن المدعمة بعوارض خشبية وحجارة ليستمر ذلك التقليد خلال العصر البرونزي، حين أبدع الكنعانيون أسلوباً معمارياً مميزاً يضم أفنية وتراسات وتصميمات معقدة.
في القرون اللاحقة، ظلّ البناء بطوب اللبن طريقة شائعة رغم ما تركته حضارات الفرس والإغريق والرومان والبيزنطيين من بصمات على الممارسات المعمارية في المنطقة.. كما جلبت الفترة الإسلامية تغييرات مهمة في المشهد المعماري لبلاد الشام.. إذ تمّ إدخال تقنيات ومواد بناء جديدة، مثل الطوب المحروق والحجر. ومع ذلك استمر استخدام البناء بطوب “اللبن”، خاصة في المناطق الريفية.
براعة البنائين
ثلاثة أنواع من الطين استخدمت في بناء البيوت القديمة؛ الصلصال، والطوب اللبن، والطمي، أما تنوع الأساليب فقد أثبتت سعة الحيلة وإبداع الناس في استخدام الطين وتكييفه ليناسب الاحتياجات الخاصة والظروف البيئية للمنطقة، ليست صناعة الطوب الطيني وحدها، بل ثمة تقنيات تمايزت بين إنشاء الجدران العازلة السميكة عبر تكديس الطوب وربطها باستخدام ملاط طيني، وطريقة جمعت بين الأطر الخشبية إلى جانب خليط من الطين والقش وروث الحيوانات لإنشاء الجدران، حيث نسجت الفروع أو العصي معاً لتشكيل هيكل يشبه الشبكة، ثمّ وضع خليط الطين على الهيكل، عبر ملء الفجوات وإنشاء جدار صلب.
أما صدم الأرض فهي تقنية تضمنت ضغط طبقات من التربة الرطبة أو الطين داخل قالب صب باستخدام طرق يدوية أو ميكانيكية حتى الوصول إلى ارتفاع الجدار المطلوب لخلق جدرانٍ صلبة ومتينة مقاومة للعوامل الجوية.
سمات تراثية
العزل أهم سمات البيوت الطينية بوجه درجات الحرارة القصوى، مع الحفاظ على برودة المساحات الداخلية في الطقس الحار وحجب دفئها خلال المواسم الباردة.. أما الساحات فقد ميزت تلك البيوت بفتحة سماوية جمعت أفراد الأسرة ووفرت تهوية طبيعية وإضاءة للغرف المحيطة ذات الأسطح القوية المستوية أو المقببة .. وعلى الرغم من كونها مصنوعة من الطين، إلا أن هذه المنازل أبدت متانة على نحوٍ مدهش وصموداً أمام اختبار الزمن ، لعل السبب عائد لقابلتيها على التكيف مع البيئة المحلية والموارد المتاحة، إذ يمكن إصلاحها أو تعديلها بسهولة بإضافة أو إزالة الطوب الطيني حسب الحاجة. سمحت هذه المرونة بتوسيع أو تقليص مساحة المعيشة بناءً على الاحتياجات المتغيرة للساكنين، مظهرة براعة الناس في استخدام الموارد المحلية وتكييف هندستها المعمارية.
بعد اندثارها لعدة قرون، نشهد عودة بعض أبنائنا لبناء مساكن طينية نظراً لانخفاض تكلفة بنائها مقارنة بالأبنية الاسمنتية وهروباً من تأثيرات الطقس الحار، معيدين إلى الذاكرة السحر المعماري الآسر والتراث، على الرغم من أنها تقدم جاذبية جمالية مختلفة لكن أبنية (الخفان) ما برح بناؤها يمثل تحولاً بعيداً عن تقنيات وميزات البناء التقليدية والتراث الثقافي الثري..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار