«الأثرياءُ» يصرخونَ بأصواتِ الفُقراء!!
لم تكنْ متواليةُ ارتفاعاتِ سعر صرف العملات الأجنبيّة مقابل ليرتنا هي المشكلةُ الأساسُ، بل كانت ملاقاتُها ومجاراتُها بسياسات التمويل بالعجز و«التسييل الكمّي» و استنساخ العملة لزيادة المعروض منها، هي المشكلةُ الأكبر التي انحدرت بالقوة الشرائيّة لليرتنا إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ، وكان الفقراءُ وذوو الدخل المحدود أكثر المكتوين بالنتائج، على الرغم من أنّ المشهد العام يشي بأنهم المستهدفون في سياق المبرّرات.
كتلةُ الدعم الكليّة كانت المبرّر، فهي ما التهمَ معظمَ موجات طرح الكتل النقديّة المتواترة في التداول، وهذه متواليةٌ لابدّ من أن تقف عند حدٍّ، ولو بإجراءٍ جراحيٍّ.
والإجراءاتُ الجراحيّةُ، على نحوٍ عامٍ، ليست ذاتَ شعبيةٍ؛ على الرغم من أنّها ضروريّة؛ فبطبيعتنا، كبشر، لا نستسيغُ الأدوية المرَّة، مهما كانت فعّالةً وشافيةً.
الإجراءُ الذي لابدّ منه حصلَ، تقليصُ كتلة الدعم و«الاستنزاف»، لكنْ؛ دعونا نعترف بأن عدمَ ممارسة الحكومة الدعايةَ البيضاء والتوطئة الصحيحة للإجراء، أوقعنا – وهذا متوقّعٌ – في دوّامة الدعاية الرماديّة الخبيثة.
فالدعايةُ الرماديّةُ علمٌ؛ لكنّها غريزةٌ أيضاً، مورِست عبر التاريخ، على نحوٍ منظّم، في الحروب المعنويّة، ويمارسُها الأفرادُ أيضاً، لكنْ، بشكل غريزيٍّ ونفعيٍّ، وهذه الأخيرةُ بالغةُ الخطورةِ؛ لأن فصولَها تجري داخل المجتمعات، وتعملُ على خلط الأوراق وزعزعة الاستقرار، اقتصاديّاً، ومن ثمَّ، سياسيّاً، كتحصيل حاصلٍ.
اليومَ، وإزاء حكاية الدعم، ظهر مهرةٌ وبارعون بيننا في استثمار اللحظة، وتوظيف «الشارع» في إدارة الرياح وفق مقتضياتٍ حسابيّة بحتة، بلغة الجيوب وصناديق «الغلّة».
والمشهدُ يتكرّر بالميكانيك والآلية نفسيهما منذ العام ٢٠٠٦، وبدايات تحريك أسعار حوامل الطاقة و«الصحوة الحكوميّة» على ضياعاتٍ هائلةٍ تتدفق في قنوات التهريب صوبَ الجوار.
ونذكرُ أن كبارَ المستفيدين، وهم كبارُ المتضرّرين، شرعوا يصرخون بصوت المواطن للضخِّ السلبيِّ ضد قرارات رفع أسعار المواد المدعومة، والعبارةُ «المفتاحيّة» كانت «المواطن الغلبان»؛ على الرغم من أن الحكومةَ خصّصت الأخيرَ حينها بـ «شيك مازوت» قيمتُه ألفُ ليترٍ مدفوعةُ الثمن بالسعر المدعوم.
بعد أن هدأت عاصفُ الضجيج، بدأت تتكشّف الأوراقُ؛ ومن جملة ما تكشّف أن أحدَ كبار المدافعين عن المواطن « الغلبان» كان يستهلك في منشآته 1.2 مليون ليتر مازوت؛ «مستحقاتُهم فيول لكنّهم يختارون المازوت لسلاسة الاستخدام»، بسعر ٧ ليراتٍ سوريّة لليتر، في حين كان السعرُ العالميُّ، ولدى الجوار ما يعادل 34 ليرةً سوريةً؛ وهذا يعني أن الرجلَ الموصوف بأنه «رجلُ أعمالٍ» يربح شهرياًّ أكثر من 28 مليون ليرة فقط من «فروقات» المازوت، أي قبلَ أن يبيعَ أيَّ سلعةٍ يُنتجها أو خدمة يقدّمها.. والـ 28 مليون ليرة كانت ذات قيمة كبيرة آنذاك.
ما يجري اليومَ غيرُ بعيدٍ عمّا جرى آنذاك، فمجموعاتُ المستفيدين يؤلّبون الفقراء أصحاب توالي الدعم «الفُتات» لإعلاء الصوت صُراخاً، من إجراءات تصحيح تشوّهات منظومة دعم المشتقّات النفطيّة.
ويعلمُ الجميعُ أن وسائلَ النقل كانت تجلدُ المواطنَ تحت ذريعة التزوّد بالمازوت والبنزين «الحر»، والصناعيُّ يرفعُ أسعارَ منتجاته بالذريعة ذاتها، والتاجرُ يسابقُ أسعارَ الصرف، و«يتحوّط» من احتمالات الارتفاعات القادمة؛ أي لم تنعكس كلُّ تريليونات الدعم على المواطن «الغلبان» وفق توصيف «المُزايدين»، ولم يكن إلا أقلّ المستفيدين، فلِمَ كلُّ هذا الصراخ إذاً؟!
في هذا البلد مَنْ هم بأمسِّ الحاجة للاستفادة من أموال الدعم التي تذهب إلى جيوب متلاعبين وسماسرة؛ بل و«قراصنة» حقيقييّن، وهذه المعضلةُ التي تمّ البدءُ في حلّها، وإن كانت الإجراءاتُ موجعةً في البداية، ستكونُ انعكاساتُها إيجابيّةً على مَنْ يستحقون الدعمَ فعلاً، فمَنْ يستحقُّ ليس الصناعيّ الذي يتلقّى الدعم، ويبيع سلعته بضعف سعرها عالميّاً، ولا التاجر الذي تحالف مع الدولار ضد فقراء بلده، ولا السمسار أو السارق داخل منظومة الدعم، ممّن أحدثوا رضوضاً قاهرةً باستعراضات مظاهر ثرائهم المفاجئ.
الآن؛ المهمّةُ الجديدةُ والصعبةُ للحكومة، هي ضبطُ التكلفة الحقيقيّة للسلع والخدمات، وهي خطوةٌ مكمِّلة لما جرى من معالجاتٍ.