(التراث) كأحد ملامح الانتماء الوطني.. كيف ننزل تراثنا الثقافي والإنساني والمعرفي منزلة القيمة التي يستحقها؟
تشرين- ثناء عليان:
«التراث وأثره في تعزيز الانتماء الوطني» عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور سلمان محمد الباحث في جذور الحضارة السورية وتاريخ المنطقة، في فرع طرطوس لاتحاد الكتّاب العرب، عرّف فيها التراث بأنه كل ما خلفه النشاط الإنساني خلال حقب زمنية متعددة، وهذا المفهوم يشكل البصمة الاجتماعية والتاريخية والثقافية للوطن، والتي تميزه عن غيره من الأوطان, ويشمل الآثار والمدائن والقلاع والمسارح والملاعب والتراث الثقافي والمعرفي والنشاط الفني والعمراني والإنساني بتجلياته المتعددة، وهو يشير إلى القيم الثقافية والمعرفية والإنسانية التي تعبر عن هوية الوطن ورسالته الإنسانية بين بلدان العالم المتعددة على مدى تاريخ نشأته، وعلى الأغلب يكون التراث راسخاً في ذاكرة المجتمع تتناقله الأجيال جيلاً إثر جيل، وهو يعبر عن هوية الشعوب، ويشكل حافظة للعلاقات الاجتماعية، ويعطي شعوراً راسخاً للناس بأن هناك مشتركات وطنية وتاريخية مع بعضهم، ويساهم في تماسك البناء الاجتماعي والوطني للمجتمع.
4500 موقعٍ أثريّ وأربعون حضارةً قديمةً في سورية
وبيّن د.محمد أن فقدان التراث الثقافي يعني فقدان الذاكرة، لافتاً إلى أن التراث الثقافي وكما هو معروف لدى الباحثين والمختصين يحتوي على جانبين: أوّلهما التراث المادي الملموس ممّا خلفه الأجداد السابقون من مبانٍ، وآثار وقلاع، وأدواتٍ، وملابس وغيرها، وثانيهما التراث غير الملموس من معتقدات، وعادات، وتقاليد، وطقوس، ولُغات وغيرها، وهو ما يُطلق عليه الموروث الشعبي.
يُواجِه التراث الثقافي للشعوب –حسب محمد- عدداً من المَخاطر والتحديات التي أَفرزتها الحروب والصراعات، لعل أهمها: تحدي العَولمة ومَظاهرها وضغوطها، ومُحاولات تعميم التنميط، والسعي إلى فرْض أسلوب الثقافة الغربية، كأسلوبٍ أوحد، على مُجتمعات العالَم ودوله، ومنها دُول العالَم العربي، فمُعظم الدول العربية، إن لم نقُلْ كلها، دخلت عصر العَولَمة من دون استعدادات كافية تجعلها قادرة على الإفادة من إيجابياتها والتحصُن من تأثيراتها السلبية، ولم يكُن التراث الثقافي بمنأى عن التأثُر، بتلك العَولمة.
ويرى الباحث أن العلاقة بين التراث الثقافي والموروث الشعبي علاقة قوية وجوهريَّة، وكلاهما يشكِّل روح الأمّة وهويتها؛ والموروث الشعبي جزْءٌ مهمٌّ من التراث الثقافي، ويتجلى هذا الموروث في مختلف صنوف وفنون الثقافة الشعبيَّة ولاسيّما في فنون الأدب الشعبي من شعر ونثر وأغان، وفي الحكايات الأسطوريَّة، كما في القصص والملاحم الشعبيَّة، ويتجلى هذا التراث في الأمثال والعادات والتقاليد والطقوس الشعبيَّة، وعلى الأغلب يطلق على الموروث الشعبي تسميات متعدِّدة مثل الثقافة الشعبيَّة، أو التراث الشعبي، أو الفولكلور.
وعن الملامح الحضارية والإنسانية في التراث السوري أكد الباحث أن كل بقعة من سورية، تروي قصّةً من قصص نشوء الحضارة وتطوّر الإنسان على هذه الأرض، وما تمَّ الكشف عنه حتى الآن، ليسَ إلّا جزءاً يسيراً، من هذا التاريخ العريق، فثمّةَ أكثر من 4500 موقع أثري موجود على امتداد الأرض السورية، وأكثر من أربعين حضارة قديمة رافقت وجود الإنسان عليها، امتدّت من أول التجمُّعات الزراعية، إلى اختراع الأبجدياتِ والنوتات الموسيقية، مروراً باختراع المحراثِ والمنجل والدولاب، إلى إنشاء أولى شبكات الأقنية المائية للسقاية والري في مملكة ماري. إضافة إلى أعلامٍ كبارَ، تتشرّف كل شعوب الأرض بانتمائهم إليها كزينون الرُّواقي، وأبولودور الدمشقي، وبابنيان الحمصي، وبوسيدون ومار أفرام السرياني وكثيرين غيرهم، لا يعرفهم إلا النزرُ اليسير من السوريين.
ولفت الباحث إلى أنّ كل ما هو موجود في الكتب والموسوعات العالمية التي اهتمّت بالتاريخ، وحللّت الوثائق والمكتشفات الأثرية في منطقة ما يسمّى «الهلال الخصيب» تثبت بشكل قاطع أنّ السوريين الذين سكنوا هذه المنطقة روّاد الحضارة الإنسانية من دون منازع، فهم أول من أقام المساكن والقرى، ودجّنوا الحيوانات، وزرعوا الأرض واخترعوا المحراث والعجلة، واخترعوا الكتابة والأبجديات والتشريعات والقوانين، وأقاموا الأنشطة الرياضية والاجتماعية، وشيدوا الملاعب والمسارح، وكانوا أبناء الحياة وأهل السلام.
وأن الالتفات إلى موضوع التراث في علاقته بالهوية والانتماء الوطني كاف بأن يسهم في ارتباط المواطن بإرثه الثقافي والمعرفي، وفي رأيه من الضرورة كمجتمع عريق أن ننزل تراثنا الثقافي والإنساني والمعرفي منزلة القيمة التي يستحقها وتطبع شخصيتنا كسوريين، وتجعلنا في الوقت نفسه منفتحين بكرامة على الإنجاز الحضاري الإنساني لنستفيد منه من غير حرج أو خوف. وأكد أن التراث أحد العوامل الأساسية التي تساهم في تعزيز الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء الوطني, ويساعد في فهم الأحداث التاريخية المهمة التي شكلت الوطن وأثرت في تطوره, ويعد في عالمنا المعاصر مرجعية تاريخية وثقافية حاسمة في دعم مقومات الشخصية وتقوية الشعور بالانتماء.
واختتم د. سلمان محمد محاضرته: يؤسفني أنّ جهل السوريين، ولا سيما الأجيال الجديدة بتاريخهم السوري وبحضارتهم التي هي أمّ الحضارة الإنسانية، قد أنتج ضحالةَ الانتماء لهويّتهم السوريّة الوطنيّة، بما هو الانتماء إلى سورية الوطن، الوطن الذي عمرُه من عمر التاريخ، لافتاً إلى أنّ الحوادث المؤلمة التي تعرّضت لها سورية منذ بدايات العام 2011 شكّلت أخطر حرب في تاريخها الحديث، استهدفت وجود المجتمع السوري والدولة السورية، ماديّاً وحضارياً.