غاب شهوراً ثم عاد!
حين وقف بالباب لم تصدّق ما تراه عيناها! كان غامق البشرة كأن ألف شمسٍ لوّحته منفرداً بين الجبال وعلى السُّفوح وفوق الرمال، أما شعره فقد نبت على رأسٍ عارٍ مثل أشواك برية بالكاد تتنفس، وكان يوم غادرها طويلاً ناعماً، ينسدل وراء عنقه الذي تتغير ياقاته الملونة كل فصلٍ بَلْه كل يومٍ، فإذا كان الصيف رقّتْ الياقة القطنية وطوّقته، وإذا كان الشتاء التفّ حوله شال صوفيٌّ اختاره من زغب “الأنغورا” أو قسوة خيوط “المرعز”، ولم يخْطُ خطوةً بعد العتبة، حيث وضع حقيبةً سوداء صغيرة بدت متموجة كأن فيها بعضَ أمعاء خاوية، أين منها الحقيبة القماشية الشاحبة بلونها الرمادي التي كان يحملها وقد أقام احتفالية يوم اشتراها، وتحدث في تلك الاحتفالية عن تمييز عينه للألوان، وعشق متدرِّجاتها، هو الذي يرى العالم ألواناً وعليه أن يختار منها ما يجعله نغماً بصرياً يبهج مشاعره ليبهجَ عينَ من يراه! وبعد ثوانٍ هبّت رائحة في المكان! كان مصدرها قريباً جداً منها، لكنها كما يبدو تعثرت قليلاً لتصل إليها، وهي في منزلٍ كانت روائحه شفيفة دائماً لأنها تلتزم بفتح الشبابيك المتقابلة، لكيلا تسكن فيه تلك الرائحة التي تلزم البيوت المغلقة! الآن اشتمّت رائحة حطبٍ محروق، لكنها غامضة وبعيدة كأنها متسللة من غابات وراء الجبال، وقد تبعته لتمحو من ذاكرة الروائح عطوره الخفيفة، التي لم تنْجُ هي الأخرى من فلسفته: لكل فصلٍ عطره، ولكل وقت عطرُه، فعطر المساء غير عطر الصباح، وأطيب العطور هي غير الصارخة التي تزكم أنف من يشمها عن الملابس في الجلسة أو الملتقى!
فتح ذراعيه مندفعاً نحو دهشتها، تاركاً الحقيبة مكانها في ضوء الشمس المنكسر على العتبة: ها أنا ذا! لن أخلع حذائي خارج البيت كما تأمرين الزوار، ولن أدعك تقفين بعيدة عني حتى تتأملي، هل يمكنك أن تعانقيني أم تسلمي باليد عن بعد! كان قد عانقها ملتفّاً حولها بألف ورقة خضراء، تماماً كشجرة اللبلاب التي هجمت على خيالها في هذه اللحظة المكتظة باللحظات، وأبعدها عنه ضاحكاً حين بكت رغماً عنها: لماذا تبكين؟ حين حملت وثائقي وخرجت إلى خدمة العلم، قدماً إلى الوراء، وقدماً إلى الأمام، لم تبكي، فما معنى هذه الدموع؟ وفاءً لطقوس الأمومة؟ كانت عينها قد طرفت بالنجمة النحاسية على كتفه حين عانقها، لذلك قالت بصوتٍ مرتجف: كيف أصدق أنني كنت أحميك حتى هذه اللحظة التي اكتشفت فيها أنك صرت تحميني؟.