خريطة سورية
تشرين -د.رحيم هادي الشمخي:
عشرون عاماً وأنا أتنفس هذه الخريطة، الخيمة التي يعيش ويتآلف ويتحابب فيها السوريون، والتي تتكدس ألوانها في رأسي يوماً بعد يوم، لعشرين عاماً وأنا أشمّ رائحة الغياب المنبعث في أنهارها وعيونها وأذوب مع لون المياه المنسرب بين نجود براريها المزدهي وقت المساء.
أنظر خط الأفق الذي يلتصق مستوحشاً مع سمائها الرمادية ذات الأعشاب، سهوب وجبال محصورة بين أوحال الغيوم، برودة تشبيه الجليد، قطارات ومحطات ليلية، صحراء غافية تعبرها غزلان وطيور شاردة قبل هجوم الظهيرة الأخير، لماذا حلمت بهذه الخريطة الخيمة طوال حياتي؟
لأنني أحببت الضوء اللافح الذي حبسه الرسام فوق ليل بواديها، والظلال السود بين وديانها المتعرشة بأغصان الشجر والزيتون، كيف تعلمت أسماء تلك المدن والأماكن الغريبة المتناثرة في دوائر سوداء وحمراء وخضراء فوق خيط الماء الأزرق، ولثغتها مع لبن الوطن الدافئ، تلك المدن التي يملأ قلب أيامها الدم والحزن وطعم الرماد، الوجوه والملابس المتشابهة في الاختلاف، كيف استمعت كل تلك السنوات إلى طقوس أهلها المفعمة بحب الوطن سورية وبهاء أرضها وصمود شعبها الأسطوري وهو يقاوم الغزاة، أعداء الحرية والحياة والسلام.
لم أملك سوى خريطتي من هذا العمر، لا أريد لألوانها أن تبهت أو تذوب أو تذبل أو تقطع أوصالاً أو شذرات، أريد أن أقف سيداً في فراغها وأنظر إلى أماكن خريطتي السورية بلهفة غريب مندهش، أريد أن أقضي نهايتي سعيداً وأنا أعيش، أشاهد كل مدن سورية وحاراتها وهي ترفل بأسواقها العامرة بالبضائع والعمران، وأسير في شوارعها ودروبها وأزقتها وضياعها وشواطئها، لأذوب مع النسمات الليلية في مدنها البعيدة المضمّخة بالجمال وحسن الطبيعة.
خريطتي امرأة لاهية، مغمضة الجفون لا تأبه لأحد إطلاقاً، ولكنني لا أملك إلّا أن أحبها أو أموت.