ابتسامة بوتين التي بالكاد ارتسمت.. كيف للغرب أن يطمئن ويرتاح؟
تشرين – مها سلطان
… ورد بوتين بابتسامة خفيفة، فيما كان لوكاشينكو يُخبره: «إنهم يطلبون الذهاب إلى الغرب، إلى وارسو، وطلبوا الإذن مني.. ولكن بالطبع أنا أبقيهم في وسط بيلاوسيا، كما اتفقنا». ويضيف: «بالكاد نبقيهم هنا.. بالكاد نستطيع السيطرة على رغبتهم بالتوجه إلى بولندا».
والحديث هنا عن مجموعة فاغنر وزعيمها يفغيني بريغوجين، الذين تستضيفهم بيلاورسيا على أراضيها في أعقاب تمرد نفذته المجموعة في 23 حزيران الماضي، وانتهى خلال 24 ساعة من دون إراقة دم، وباتفاق قضى بالعفو عن بريغوجين وبتوجهه مع عناصر التمرد إلى بيلاروسيا، حيث أعلن رئيسها لوكاشينكو أنّ بإمكان بلاده الاستفادة من فاغنر و خبراتهم القتالية.
هذا الحديث- آنف الذكر- الذي جاء خلال قمة الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين، والبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو يوم الأحد الماضي، في مدينة سانت بطرسبورغ، ما زال صداه يتردد عالياً في الأروقة الأميركية / الأوروبية، ليَصُبَّ مزيداً من الزيت على نار المخاوف والشكوك لدى الغرب، والتي تتضاعف مع مرور الوقت من دون انكشاف السر، أو من دون القدرة على كشف «السر العظيم» وراء تمرد فاغنر، وكل ما تبعه من أحداث لاحقة، خصوصاً لناحية اختيار بيلاروسيا لتكون محلّ استضافة لعناصر التمرد وزعيمهم بريغوجين.
وعليه وجد الغرب نفسه أمام لغزين يستعصيان على الحل، لغز التمرد ولغز بيلاروسيا، ولا خيار أمامه سوى الانتظار حتى «يقضي» بوتين «أمراً كان مفعولاً» إذا حقَّ لنا التعبير.
أَمْرُ بوتين المُنتظر هو أيضاً لغز ثالث بالنسبة للغرب، مرتبط مباشرة بتمرد فاغنر وهل كان هذا التمرد هو خطة متقدمة من بوتين وحليفه الأوثق لوكاشينكو؟.. يتساءل الغرب فيما يعتقد المراقبون أنّ الهدف هو تغيير قواعد الميدان من جهة، وتحسباً لتحرك عسكري مفاجئ ربما كانت أميركا وحلف «ناتو» يخططون له، من جهة ثانية.
لكن الرئيسين بوتين ولوكاشنيكو لا يقولان الكثير، أو هما بالأحرى لا يقولان شيئاً باستثناء إشارات وتلميحات محسوبة تحاصر الغرب بمزيد من نيران المخاوف والشكوك والترقب، وسؤال رئيس: هل يُحضّر بوتين لمفاجأة ميدانية، متى وكيف وأين؟
فعلياً، جميع المخاوف والشكوك تتركز حول بولندا منذ اتفاق استضافة بريغوجين ومجموعته في بيلاروسيا الحدودية معها، ثم بدرجة أقل ليتوانيا الحدودية أيضاً مع بيلاروسيا، وكلتاهما عضو في «ناتو».
صحيفة الـ«تلغراف» البريطانية وتحت عنوان «هل تهاجم مجموعة فاغنر بولندا؟» انتقدت بحدّة تصريحات لوكاشينكو حول أن مجموعة فاغنر لا تطيق صبراً وتريد التوجه إلى بولندا، بمعنى تنفيذ هجوم ضدها، وذلك حسبما فهمه الغرب من تصريحات لوكاشينكو، وتقول التلغراف: هذه التصرحات «تبدو مضحكة ولكن ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد».
ولا تفسّر لنا الصحيفة البريطانية كيف هي مضحكة، أي أنها بلا معنى، وفي الوقت نفسه يجب أخذها على محمل الجد.
أكثر ما يُقلق الغرب هو «النقص الحاد في المعلومات» بخصوص ما جرى في ليلة الـ23 من حزيران الماضي، حتى إنهم يُعبّرون عما جرى بالقول «في أحداث توصف بأنها انقلاب» أي إن الغرب لا يزال يتقلب على جمر الشكوك من دون أن يستقر على معلومة محددة حيال ما جرى، هل هو انقلاب أم إنّ روسيا تحضّر لأمر ما؟.. ويرى الغرب أن ما كان يُوصف بأنه «أخطر 24 ساعة على نظام بوتين» قد يتحول بين ليلة وضحاها إلى أخطر 24 ساعة على الغرب نفسه «أوروبا بالدرجة الأولى» إذا ما صدق الحدس الغربي بأنّ «انقلاب فاغنر» يُخفي الكثير الخطير ما سيُفاجئ الغرب في المرحلة القريبة المقبلة.
طبعاً هذا القلق يتضاعف بصورة متسارعة إذا ما تحدثنا عن بولندا وليتوانيا، حيث ترى بولندا أنها مستهدفة بالدرجة الأولى في مسألة انتقال فاغنر إلى بيلاروسيا تحت مُسمى استضافة، وكيف لرئيسها لوكاشينكو الحليف اللصيق بالرئيس بوتين أن يستضيف من سمّاه بوتين بالخائن ويتوسط في سبيل العفو عن الخائن، ومن ثم استضافته في بيلاروسيا مُعززاً مُكرماً، لذلك لم تنتظر بولندا جلاء كامل «العتمة» بشأن كل ما يحيط بفاغنر وتمردها وانتقالها إلى بيلاروسيا، والهدف من ذلك وما هي الخطوة التالية للرئيس بوتين.. وتحسباً فهي أعلنت غير مرة إرسال تعزيزات إلى الحدود استباقاً لأي خطوة مفاجئة.
وكان لوكاشينكو خلال قمته مع بوتين أحضر معه خريطة لعمليات نقل بولندا قواتها إلى الحدود الشرقية.
ومع أن هناك شبه إجماع في الغرب على أن روسيا لن تقدم على مهاجمة بولندا باعتبارها عضواً في حلف الناتو والهجوم عليها سيدفع بالحلف إلى فتح جبهة مباشرة مع روسيا، وهو ما لا يريده أي من الأطراف، إلّا أنّ هناك أيضاً شبه إجماع على أنّ جبهة أوكرانيا ستتوسع في المرحلة المقبلة باتجاه تغيير قواعد الميدان وفق الأهداف التي وضعتها موسكو وبما يُقرّب عملية الحسم في أوكرانيا، ويقطع الطريق على الغرب الذي يريد لحرب أوكرانيا أو تتحول حرب استنزاف لروسيا، وربما هناك ما هو أخطر من ذلك.
خبراء عسكريون يتحدثون عن تمركز قوات فاغنر في بيلاروسيا يضع موسكو في موقف يسمح لها بضرب أهداف حيوية لحلف الناتو بسرعة، معتبرين أنّ فاغنر يمكنها أن تهاجم المنطقة الحدودية في بولندا وليتوانيا خلال ساعات، والهدف هو السيطرة على ممر سوالكي في هذه المنطقة، والذي يمتد بطول 60 ميلاً على حدود بولندا وليتوانيا، ويحمل أهمية إستراتيجية كبرى نظراً لوقوعه بين بيلاروسيا وقاعدة كاليننغراد، مقر أسطول البلطيق الروسي.
وحسب هؤلاء الخبراء، خصوصاً الروس منهم، فإنه «في حالة حدوث أي شيء فإن روسيا تحتاج بشدة للسيطرة على ممر سوالكي بأسرع وقت ممكن».
تعليقاً على ذلك تقول ريبيكا كوفلر ضابطة الاستخبارات العسكرية الأمريكية السابقة والكاتبة حالياً، لشبكة «فوكس نيوز» الأميركية إنّ «انتقال قوات فاغنر إلى بيلاروسيا قد يكون مُخططاً أعده بوتين لفتح جبهة جديدة في الحرب الأوكرانية عبر بيلاروسيا التي توجد فيها الآن أسلحة نووية تكتيكية».
وتعدّ كوفلر أنّ الرئيس بوتين تمكّن عبر أحداثٍ توصف بأنها انقلاب «من وضع قوات فاغنر – أفضل قوة هجومية يمتلكها – في موقع يمثل تهديداً أكبر، حيث هم الآن أقرب إلى كييف وأقرب إلى حدود الناتو الشرقية في لاتفيا وليتوانيا».
مع ذلك لا ترى كوفلر أنّ بوتين يسعى لمهاجمة الناتو لكنها ترى أن وجود فاغنر في بيلاروسيا سيسمح له بأن يكون «مستعداً» في حال شعر بأن هناك تصعيداً فعلياً – في حرب أوكرانيا – من جانب الولايات المتحدة والناتو، وتقول:«جنرالات الجيش الروسي وقياداته معروف عنهم أنهم يميلون إلى التخطيط البعيد، ومنذ أكثر من عقد خلصوا في تقييمهم إلى أنّ المواجهة المباشرة بين روسيا والناتو أصبحت حتمية ولا مفر منها».
وتضيف كوفلر محذرة من أن روسيا يمكن أن تختار القيام بالضربة الأولى وسيكون ذلك عبر بيلاروسيا، وتجادل بأن أي تحركات من جانب الناتو سيُفسرها بوتين على أنها تصعيدية وقد تدفعه للتحرك أولاً، وتقول: «بوتين لن ينتظر أن توجه أميركا الضربة الأولى، لو قيّمت الاستخبارات الروسية أنّ قوات أميركا / الناتو على وشك المشاركة فعلياً في القتال في أوكرانيا، فإنّ بوتين على الأرجح سيقدم على التحرك أولاً، والسيطرة على ممر سوالكي».
ويتندر مراقبون على حال الغرب وعلى «فرحة ما تمت» وكيف هو اليوم يغرق ببحر من الأسئلة والشكوك، ولا يكاد يفهم طبيعة العلاقة السابقة واللاحقة – قبل وبعد التمرد – ما بين فاغنر وبوتين.
وحتى ينكشف المستور، كان لا بدّ للولايات المتحدة من أن تعلن بوضوح أنها مستعدة لحماية بولندا بمواجهة أي هجوم من قوات فاغنر، وحسب المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر فإنّ بلاده مستعدة لـ «حماية كل بوصة من أراضي الناتو»، قائلاً: إنّ تحالفنا مع بولندا قوي، وفي حال الضرورة نحن مستعدون لحمايتها.
وبالتزامن تقريباً كان بوتين يتعهد بالدفاع عن بيلاروسيا إذا ما تعرضت للهجوم، وبما عزز التساؤلات الغربية حول ما إذا كان بوتين أعدَّ خطة لتنفيذ هجوم من نوع ما، بحثها مع حليفه لوكاشينكو، وكان بوتين وفي إشارة إلى أهمية مباحثاته مع لوكاشينكو، قال: لقد غيّرت بعض خططي حتى تستمر المحادثات مع لوكاشينكو ليومين.
لكن السؤال الأهم – بالنسبة للغرب – حيال ما إذا كان بوتين قد أعدّ خطة هجوم، السؤال هو: كيف سيكون الرد الغربي، شكله وحجمه، مُوحداً أم مُجزّأً ، وأي عواقب؟