كلما كادت مرارتي تفقعَ من هول الكوارث المحيطة بنا، أتتِ الكوميديا لتنقذَ آخر ما تبقى في روحي من قدرة على الاستمرار في العيش، وتحافظَ على آخر ذرة سليمة من عقلي المصدوم بما وصلنا إليه!
هكذا ألجأ إلى مهدئاتِ مثل «ضيعة ضايعة»، وكبسولاتٍ دوائية ذهبية من مثل «بقعة ضوء»، ومقاطع ساحرة من «يوميات مدير عام»… وغيرها، أعيدها وأضحك من «صماصيم» قلبي، أضحكُ في البداية مثل «محرّكِ» باصٍ صدئٍ يحتاج إلى «روداج»، ثم مع تدفق المشاهد الكوميدية تبدأ خلايا جسدي بالاهتزاز على إيقاعات الفرحِ المتجدد، حتى تصلَ قهقهاتي إلى آخر الحارة، بينما دموع الضحك الباردة المنعشة تسيلُ مهدّئةً خاطري المكسور.
وأفكّر: يبدو أن الكوميديا -في الدراما عموماً والسوريّة منها خصوصاً- هي موقفٌ جريءٌ من الحياة التي تسحقنا يومياً، نقولُ عِبرها ما لا نستطيع قوله مجاهرةً وصراحةً، ففي بعض جوانبها الشِّفاهيّة، هي حيلةُ الضعيف ضدّ القويّ المتجبّر، سلاحُ البسطاء ضد المتسلطين على رقابهم وأرزاقهم، في محاولة عفوية منهم للحفاظ على اتّزان عقولهم ونضارة أرواحهم، وهي أيضاً في شكلها المكتوب والموثّق قدرةٌ فكرية عالية على نقد الاعوجاج الاجتماعي والنفسي والفكري، وحتى التطرف العقائدي، بل تستفيد من ذلك الجمود لتخلق المفارقات المضحكة بين الجديّ والهزليّ، بين الجافِّ الجلِف والمرِحِ خفيفِ الدم، بين العبوس والابتسامة!
وأحسبُ أن الكوميديا بشكلها الأوسع كانت ولاتزال إحدى أهم الجينات التي كوّنت جسم الدراما السورية العظيم على مدى عقود، فتاريخها أصيلٌ في عروقنا، وممتدٌّ منذ مسرحيات الثالوث (الماغوط/ دريد/ نهاد) التي نشرت عبقها على مدى عقود حتى اليوم حين يستعيدها التلفزيون السوري كنوعٍ من الوفاء اللازم… كل ذلك أكسبَ الكوميديا السورية ثقة عالية ومصداقية عند جمهور ينتظرها بشغف.
وإضافة إلى «ملحميّة» الدراما التي تجلّت في حكايات أبطالها الواقعية، سواء في قصص شخوصها على الورق أو عند الممثلين أنفسهم الذين عاشوا تقاطعات خيباتهم وعذاباتهم، وهم يصارعون من أجل بقائها على قمة «أولمب» الإنتاجات الدرامية العربية ذات القدرة التنافسية العالية لجهة ميزانياتها وإمكاناتها التقنية واتّساع رقعة الجغرافيا التي يمكن الاستفادة منها كأماكن تصوير… إذاً إضافةً إلى ذلك، فإن للكوميديا السورية ميزةً تتأتى من عدة مكونات عرِفَ صنّاعها كيف يشكّلونها كصائغ دمشقي عريق، بدءاً من الفهم الدقيق لنفوس الناس وطبيعة المجتمع، إلى القدرة العالية على مداورة «الرقيب» المتعدد، بذكاء ومهارة كلعبة القط والفأر… قدرةٌ أو تحايلٌ رفَعَ، بشكل أو بآخر، سقفَ القبول العام للنقد الموجه ضد الشعارات الفضفاضة، والفساد المؤسساتي، وتسلّط المتنفّذين… إذ يمكن القول: إن هذا النقد كان في مرحلة تاريخية ما ميزةً ممنوحة لبعض النخب السورية المثقفة، لكنه أصبح اليوم أكثر شيوعاً لدى جمهور بدأ يستخدمها وسيلةً أقل خطورة من الانتقاد المباشر للإيديولوجيا الحزبيّة الجافة.
تلك الكوميديا إذاً كانت بمنزلة ريشٍ قَزحيٍّ يُدغدِغُ الغنيَّ والفقير، الكبير والصغير، الموظف وصاحب القرار، الرجال والنساء… لأنها بالضبط تنتمي إلى تلك الجينات أو الهِبة الإلهية التي استطاع أبطالُها توليفَها وقولبتَها لرسم الابتسامة على وجوهنا والتخفيف من بلوانا.. فهل ستتمكن المسلسلات الكوميدية المقبلة -على غرار سابقاتها العظيمة- من إهدائنا البهجة المتوقعة لـ«فشّ خلقنا» وقول ما في قلوبنا، وجعل خواصرنا «تفقع» من الضحك .