«الحياة الحقَّة» لـ«فرانسوا جوليان».. التحرّر من السؤال عن معقوليّة الوجود

تشرين – بديع منير صنيج:
يتحرر الفيلسوف الفرنسي فرانسوا جوليان (مواليد 1951)، في كتابه «الحياة الحقة» (De la Vraie Vie) الصادر مؤخراً في باريس عن منشورات «لوبسرفاتوار» من تقاليد السؤال عن معقولية «الوجود»، التي تفرض هيمنتها على الفكر الغربي من اليونان إلى القرن العشرين، إذ إنه يؤمن بأنّ «الآخر» لا يمكن اللقاء معه إلاّ في منطق «وسطي»، إذ يصبح خلق «المشترك» ممكناً، ولا يكون الآخر محصوراً في خانة «التشابه» فقط، مؤسساً لفرضية فلسفته الأساسية من خلال ضرورة تطوير التفكير في معنى الحياة وذلك على طريقة الشرقيين، بعدما اشتهر بدراساته عن الثقافة الصينية، إذ درَس اللغة والحضارة الصينية في جامعة بيجين وشانغهاي.
ولذلك تأتي مؤلفاته المترجمة إلى عشرين لغة بعناوين من قبيل: «فلسفة الحياة» (2011)، «من الوجود إلى الحياة. معجم أوروبي- صيني عن التفكير» (2014)، «الحياة عن طريق الوجود. أخلاق جديدة» (2016)، «حياة جديدة» (2017).
وفي خضم هذه الفرضية الفلسفية المميزة يأتي كتاب «الحياة الحقّة» الصادر مؤخراً، ويبدأ بفصل عنوانه «الحياة الغائبة». وهو يفهم الغياب بوصفه نوعاً من «الاكتظاظ» يشعر به كل فرد في الأرض، وهو يزداد تحت ضغط «ثقل لا مرئي» يمنع عنه عدداً هائلاً من «الممكنات» التي انسحبت. لكنّ هذا الشعور لا يصبح حاسماً إلاّ عندما ينجح في التحوّل إلى «هاجس»، إلى شكّ ما في «أنّ الحياة يمكن أن تكون على نحو آخر غير الحياة التي نحياها». وهو هاجس قديم في نفوس البشر، يدعوهم إلى التساؤل فجأة: «هل الحياة التي نحياها هي حقاً الحياة؟» ماذا لو لم تكن كذلك وأنّ شيئاً «حميمياً» في الحياة قد فاتنا. ومن ثم الاستنتاج المزعج: «ربما أنا لم نبدأ بعد في الحياة بشكل حقيقي».
يشعر كثير من الناس بأنّ حياتهم مجرد «مظهر» من حياة لم يعيشوها أو هي «شبه حياة»، أنّهم يمرّون «بجانب» حياتهم، «بجانب الحياة الحقة، بجانب الحياة التي ينبغي أن يحيوها حقّاً»، من دون أن يدركوها، أنّهم يفوّتونها.
وهكذا تبدو الحياة «الغربية» في نظر المؤلف وكأنّها تيّار من «الحيوات الزائفة» التي فقدت قدرتها على الدخول في علاقة «حميمة» مع نفسها. وفي تقدير جوليان أنّ لسان حال الغربيين هو تقوّلهم اليومي: «ماذا لو أنّ حيواتنا ربما لم تكن غير أشباه حياة». طبعاً، يحاول الناس عادة نسيان ذلك مثل نسيان كابوس. لأنّ ذلك صار شيئاً مألوفاً. وفي رأي المؤلف أنّ الوسيلة التي يستعملها الغربيون لنسيان ذلك الهاجس وهو ما يهدّد إمكانية التفكير فيه، ليس شيئاً آخر سوى «سوق السعادة والتنمية التي نسمّيها شخصية واللتيْن توحيان بأنّنا نفكّر». هذه البضاعة الثقافية التي جعلت من «التنمية الشخصية» موضوعاً خاصاً بها، هي تنتج «فلسفة مشبوهة» في كامل أوروبا، تدّعي أنّها «تحسّن» إحساس الناس بأنفسهم. هي تركّز على «الحيوي وحده» لكنّها بذلك تقدّم ما هو «روحاني» ولكن «بلا مثل أعلى، من دون أيّ جهد أو طلب». وهو تدجيل أخلاقي تحوّل إلى «إيديولوجيا مهيمنة». وحسب تقدير الفيلسوف الفرنسي المعاصر، فإنّ هذا النوع من «البلادة» يهدّد الفلسفة بالطريقة نفسها التي تكون بها حياتنا مهدّدة بالحياة الزائفة.
والحال أنّ الأمر يتعلق بنوع من «الفكر الكسول والانطواء، انطواء التفكير وانطواء الحياة»، على نحو يمنع الحياة كما يمنع التفكير في الحياة الحقة، ولذلك لا توجد من طريقة أخرى لنقد أشباه التنمية الشخصية من دون أي محتوى روحي سوى أن نعود للتفكير في «الحياة الحقة» من خلال السؤال: كيف يمكن للحياة الحقة أن تتحوّل إلى «مفهوم يفضح في الوقت نفسه ما يضعفنا في الحياة الزائفة كما في التفكير الزائف»؟ كيف يتمّ نسيان الحياة داخل الحياة نفسها؟ وأخيراً كيف نعيد الحياة إلى نفسها؟

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
المقداد: العدوان الإسرائيلي على غزة أسقط شعارات الغرب ومزاعمه وكشف نفاقه وافتقاره للقيم الإنسانية أعمال تنتيج مواد شهادة التعليم الأساسي لا تزال مستمرة والإعلان عن موعد إصدار النتائج قبل 48 ساعة 1200 فيلم وسيناريو تقدّم للمشاركة في مهرجان كوثر الدولي السينمائي في إيران "الزراعة" تناقش الخطة الزراعية المقبلة: وضع رقم إحصائي ومراجعة بروتوكول إنتاج بذار القمح والترقيم الإلكتروني لقطيع الثروة الحيوانية برنامج ماجستير تأهيل وتخصص في التنمية المجتمعية بالتعاون بين الجامعة الافتراضية السورية ومؤسسة التميز التنموية إطلاق أول اجتماع لشرح آليات تنفيذ دليل التنمية الريفية المتكاملة في طرطوس وزارة الداخلية تنفي ما يتم تداوله حول حدوث حالات خطف لأشخاص في محلة الميدان بدمشق على خلفية مشكلة خدمة دفع الفواتير عبر الشركة السورية للمدفوعات.. "العقاري": السبب تقطع في خطوط الاتصال وتم الحل المشهد الأميركي- الانتخابي والسياسي- يتخذ مساراً تصاعدياً بعد محاولة اغتيال ترامب.. لماذا إقحام إيران؟.. بايدن يُمهد لانسحاب تكتيكي ويلمح إلى هاريس كـ«رئيسة رائعة» أول تجربة روسية للتحكم بالمسيرات عبر الأقمار الصناعية