ناديا علي في «العاصفة الأخيرة».. حِكايات اليوم وأيَام زمان
تشرين- لبنى شاكر:
أَعادتني قصة “قرص نيوتن” وفكرة البحث عن عريفٍ للصف، إلى سنواتٍ مضت، لم نكن نختار فيها أصلاً عريفاً أو عريفة، إنما كان يُفرض علينا لقرابته بمعلّمٍ ما أو لمقدرته على إسكاتنا إذا ما علت أصواتنا أثناء الانتقال من حصةٍ درسيّةٍ إلى أخرى، غير أنّ الآلية التي تسوقها القاصّة ناديا أحمد علي لاختيار التلاميذ عريفاً من بينهم، فيها من الالتباس الكثير، رغم النهاية التي تنتصر لتحييد سلطة الفرد مقابل توزيع السلطات في فريق عملٍ واحد، شعاره “الكل للواحد والواحد للكل”، بانتقاء أربعة عرفاء لكلٍ منهم ما يُميزه عن البقية، لكنها بالمقابل تنسف الفكرة الأساسية للقصة، التي تدور حولها نقاشات الصغار وتقييماتهم لسلوكيات رفاقهم، قبيل العثور على الأفضل ليكون عريفاً، بحيث يبدو العجز عن اتخاذ قرار مُبرِراً أكثر منه اختياراً واعياً.
ازدواج المعنى وعدم وضوحه، يحضران عدة مرات في المجموعة القصصية للأطفال والناشئة “العاصفة الأخيرة”، رغم الاشتغال الواضح في بناء حكايات تتباين أزمنتها وشواغلها، من علب الألوان وأحاديث النهر والغيم والغزالة، إلى “كان يا ما كان” والحكايات الشعبية، كأنّ القاصة تبحث في الفرق بين الحكاية والقصة، وما انسحب على المفردات والخيال والسرد والعبرة من تحولاتٍ، فكان لا بد من وضع لوائح لشرح الكلمات الغريبة في المجموعة، مثل “الخؤور: خلجان البحر”، “تشاله: قارب صغير”، ومن ثم الفصل بين عالمي مجموعتها المعاصر والقديم، بعنوان “حكايا أيام زمان”، حيث تعود بِقرائها إلى شخصيات الملك ورجال البلاط وما شابه، من دون أن تُوفّق كُلياً في القبض على معنىً واضح في الخواتيم، ومن ذلك “حكاية نصف الكوب” وخطة الملك وحكيم البلدة، لاختيار وزيرٍ صالح يشبه الوزير الراحل، بأن يُقدّم للراغب بمنصب الوزارة كوب زجاج نصفه ماء، لِيعطي رأيه فيه.
في هذه الحكاية، يبدو المغزى مُبهماً، إذ إن الاختيار يقع على رجلٍ قال في وصف الكوب: “أرى كوباً فارغاً تماماً، مملوءاً تماماً، له أذنٌ رائعة، تبدو في تحدبها وفي تقعر أخمصها كأنها ذراع راقصةٍ أُسندت إلى خاصرةٍ دقيقة”، ولأن الملك، لم يفهم ما قاله الرجل، اضطر للاستعانة بالحكيم ليشرح له معنى ما قيل، وهو “الكوب امتلأ من الأعلى هواء، ومن الأسفل ماء، فهو مملوءٌ إلى آخره، وهي رؤيةٌ متكاملة جمعت الشيء وضده، والظاهر والباطن، وداخل الكأس وخارجها”، فما الذي يُفترض أن يفهمه القارئ هنا؟ بالتأكيد الإشارات التي تُلمّح إليها الكاتبة غير مناسبة للشريحة التي تتوجه إليها، ربما كانت تحتاج شرحاً بمفرداتٍ أكثر بساطة ووضوحاً أو حتى اختباراً مَبنياً على فعلٍ ما، يتناسب مع البداية، حيث الملك يحتاج وزيراً يُعينه في حُكمه.
في “منشار أبي خالد” يبلغ تداخل المفاهيم ذروته، ففي حين تعلمنا أن نُعيد للآخرين أشياءهم التي نستعيرها منهم، سريعاً، مع التعاطي معها على أنها أمانة عندنا، نرى كيف يتنقل خالد بين مخلوقات الغابة، باحثاً عن منشار أبيه الذي أعاره إلى جاره صاحب الكوخ الجديد، وبدل أن تدعم الحكاية ما هو مُتفقٌ عليه مُجتمعياً، نراها تمدح إعارة المنشار من دون إذن صاحبه الأصلي، بحيث لا يتمكن الطفل أبداً من استعادة منشار أبيه، وعلى العكس “كان سعيداً لأن سكان الغابة جميعهم قد استعاروا منشار والده، وصنعوا به أشياء مفيدة ورائعة لهم ولأولادهم ولرفاقهم”!، وفي السياق نرى الطفل تائهاً بين الجار، الغزالة، الصياد، النهر، الفيل، الأرنب، الحطّاب، وفي آخر محطاته يسأل الكلب: “أين وضع الحطّاب المنشار”، فيجيبه: “لا أعلم، اجلس هنا ولنلعب ريثما يعود الحطّاب من المدينة ويُعيد إليك المنشار».
في “العاصفة الأخيرة” يتكرر الإشكال ذاته، فطوال الحديث بين همام وجدّه حمدان الصولي، عن مغامرات الأخير في البحر، وكيف عرف أنواع العواصف والأهواء والأنواء وقاومها، لكن ثمة ريحاً أعتى وعاصفةٌ أشد لم يعرفها في زمانه، ولو عرفها لانحنى لها وباركها، لنعرف لاحقاً أنها “مباني الشركة الوطنية للاستثمارات النفطية” و”مصافي النفط وأنابيب الغاز الطبيعي والبواخر العملاقة الحديثة الطراز”، فكيف يصح وصفها بالريح التي يعجز الإنسان أمامها في كثيرٍ من الأحيان مع شدة أذاها؟ كما أن أي إنجازٍ أو تقدُّمٍ يحتاج جهداً وزمناً وصبراً، بينما تُعرف الريح بسرعتها واضطراب مفهوم الزمن فيها!
القاصة ناديا أحمد علي، حائزة جائزة “محمود تيمور” لأفضل نص مسرحي في مصر لعام 2008، صدر لها كتاب “الإنذار المبكر قبل الزواج” عن دار الكتاب العربي في مصر عام 2020، وهي مدققة لغوية في دُور نشر عربية، ولها تجارب في كتابة الأبحاث والدراسات الأدبية، أمّا “العاصفة الأخيرة” فهي باكورة أعمالها في أدب الطفل، الرسوم فيها للفنانة شذا سمعول، صادرة عن اتحاد الكتّاب العرب.