فلسفة المرض
تشرين- إدريس هاني:
تجربة المرض، حين لا يبقى إلّا بعض الخيال.. الحمى تجتاح الجسد.. يغيب الوعي بينما يسافر اللاّوعي إلى حيث تشتهي الحمى.. ما أضعف الكائن.. هذا ما جرى .. لكنه جرب أن يحْبِك علاقة مع المرض.. هو لا يُحب الحديث عن المرض حتى حين يبلغ الذروة.. عندما يستيقظ يقول شيئاً مضحكاً..الفكاهة والمرض..هذه طريقته في مقاومة الوعكات.. ومع ذلك تأتي فكاهته المحمومة الارتجالية أفضل مما تمطرنا به شاشاتنا.. عصر التفاهة يجتاح حتى الضّحك.. زمن ضاع فيه محتوى الجدّ والضحك معاً.. لحظة الذروة سافر إلى حيث لا يدري.. صور لم يَرَها من قبل .. ألوان جديدة.. البصر حديد.. ترى هل كان من العائدين؟ ربما.. كل شيء انهار..لكنه فكر في أكثر المعادلات خطورة.. كان يفكر في كل شيء.. كأعمق ما يكون الفكر وهو محموم.. ثم ماذا؟
في ذروة المرض والحمى الأربعينية، أدرك أنّ الجسد حمار الروح..أدرك أن الوجود يترنح بين التفاهة والكبرياء، والذي يحتاج إلى نحو وجود ضمن أنحاء شتى منه، هو هذا الكائن الذي يستطيع أن يستعيد وجوده في حمأة الحُمى.. يبحث عن الوجود الأكبر..سئم الرداءة..هنا جمالية المرض تتجلّى في إخراج الكائن من دورة التفاهة..لا جدية كالمرض.. يجره المرض إلى اختيار الأفضل..هنا الحمى والحميمية والولادة الثانية من الحمأ المسنون، وانتظار الفرج…المرض محطة، هكذا فهم المحموم، محطة لرؤية مختلفة للعالم، اكتشاف الأنسنة خارج الممضوغ الأَنْدَلُجي (من الأيديولوجيا على وزن الأندلسي)..لا عليه، إنه يفكر ويتلفظ كمحموم يرى ما لا يرى الآخرون..
ماذا يعني المرض، إذا كان الإنسان كائناً مريضاً أصلاً..الفلسفة مهما تواهمت هي علاج، هكذا فهمها ومارسها وباح بها نيتشه..كان المريض يتلوّى ويترنّح، ثم يسافر في الخيال لحظات، يكتشف فيها زيف الوجود الأدنى، يكتشف أن من حوله مرضى، والأهم يكتشف أن البيئة التي انتشله منها المرض هي بالغة الزيف..تنزل الحرارة.. ظلت آثار الحمى الشرسة..سيُطل على الأحداث.. وجوه لم يكن يراها، وأخرى رآها ولكن كانت تتسكع في أسفل المدينة ذات زمان..انقلبت الموازين انقلاباً مفاجئاً من دون زمن موضوعي لميلاد السُّحت.. مُسخت النُخب، زمن الكبار ولّى وجاء زمن الضُّعفاء الذين لا يقبل منهم حديث.. صعود مدوٍّ في مَلكة الإنشاء وخلط الأوراق والألفاظ.. تراجع الفكر وانتشر الهمّ والغمّ..كان النصب والاحتيال يوماً قضية تخص قطاع التجارة والمتاجرة، بات النصب والاحتيال في الفكر والمعرفة وحتى في الرياضة: يا لطيف.. ذهبت أجيال وجاءت أخرى.. والنصابون يستغلون فوارق الأجيال.. هوس هوس.. زمن الرواد كانوا يخشون من الكلمة.. يلوكونها كما المثل الفرنسي سبع مرات قبل أن يلفظوها.. اختبار المفاهيم.. تعزيز مَلكة الإبداع بدل مَلكة الحفظ.. اعقلوا هذا العلم دراية لا رواية.. كانت تلك الصور تدور في ذهن المحموم.. وهي وحدها التي لم يجد لها حلّاً..
عقل لا تُحتمل خفّته تنويعاً على مأثورة ميلان كونديرا، وافته المنية يوم كان المحموم هائماً في هذيانه.. هذا العقل الخفيف لكائن لا يدري ما يفعل وإلى أين يسير.. تلك هي معضلة العقل السياسي في بيداء مريضة وحتى الآن مازالت لا تعترف بالمرض.. كان المحموم يتألم أكثر وهو يتصفح جديد العِق السياسي العربي، أكثر حتى من نقْرِ الحمى المتواصل.. يستشرفون المستقبل وما دروا أنّ المستقبل الذي بنوه خلسة واختلاساً في الماضي يتحقق اليوم.. استسهال اللعب من دون منظور ينتهي إلى هذا الذي نسميه: السحور مع الدراري يُفطر.. الأغرب فقدان الشعوب بالمرض.. الاستمرار على الخداع الذاتي نفسه.. حفر الحُفر ثم السقوط فيها بغباء.. الحمّى أفضل.. جمالية المرض.. فرصة المرض.. سيعود إلى اللاّمعنى.. إلى الحماقة.. إلى ليالي الأنس في زريبة النّوكى.. كان المحموم يطل من يوتوبيا الانخطاف الحميمي للحمّى على هذا الهوس.. ذهبت الحمّى وبقي حميم القلق.
بؤس كائن عدواني لا يقدر على المواجهة.. كائنات تستعيض باللسان الطويل عن ضعفها.. ألم يفهموا أنّ القوة في الصواب والأنسنة والرّقيّ.. ما لهم كيف يحكمون؟
الاستهتار بالضمير نهايته وخيمة.. العدوان ضعف.. أُنصتَ البارح إلى دجال في الإسلاميات، رصيده فيها إنشاء بليد، يتفجّر تفاهة ودجلاً.. يزحف على بطنه متملّقاً كالحيوت.. القوادة الإنشائية.. ما هذا؟ يتحدث عن التسامح والجماليات.. بعد أن احترف الطّعان والقبح.. مثال فقط عن زمن الرداءة في كل شيء، في الفكر والشعر والرواية والدين.. انتهازية متدفقة.. يقول المحموم: قبح الله سعيهم.
لطالما فكر أن يبقى محموماً إلى الأبد بدل أن يعود إلى زريبة المسوخ.. ضمائر تشبه الإسفنج المقلي.. أنسنة رقطاء تزحف كأفعى مجلجلة.. يقول: أليس حرّياً أن تصاب تلك الرؤوس الكذوبة بالحمى القلاعية؟
يبدو أن المغالطة تحمي تلك الرؤوس من الحمى، ذلك لأنّ لا أمل لها في ولادة ثانية.. أليست الحمى القلاعية والمالطية أفضل وسيلة للهروب من بيئة السلاحف والسحلّيات المعرفية؟
بلى.. !