أميركا أرسلت «ثعلبها» إلى الصين بـ«مهمة مستحيلة».. بماذا عاد؟
تشرين– د.رحيم هادي الشمخي:
لا شك أن البيت الأبيض استمع مطولاً من هنري كيسنجر لمجريات زيارته للصين ولقاءاته مع المسؤولين فيها بمن فيهم الرئيس شي جين بينغ.. وبقي أن نستمع نحن، أي بقية العالم، لما عاد به كيسنجر، علماً أنه ليس بالضرورة أن تكون جميع كواليس الزيارة مُعلنة، بل قد تكون بمجملها غير مُعلنة، باستثناء الخطوط العريضة وتكرار التصريحات الكيسنجرية نفسها حول حتمية أن تكون العلاقات الأميركية- الصينية جيدة، أو على الأقل العمل بشكل متواصل على أن لا يصل الصراع إلى درجة الانفجار عندها فإن العالم بأجمعه سيقف على فوهة حرب عالمية ثالثة.
مع ذلك نستطيع استشفاف الكثير من تلك الكواليس من خلال السلوك الأميركي اللاحق لما بعد زيارة كيسنجر التي بدأت الثلاثاء الماضي واستمرت لأربعة أيام والتي تأتي في إطار سلسلة زيارات لكبار المسؤولين الأميركيبن إلى الصين حتى وإن صرحت إدراة الرئيس الأميركي جو بايدن أن زيارة كيسنجر هي زيارة فردية خاصة.
لا شك أن إدارة بايدن تبني الكثير على هذه الزيارة وهي وإن عبرت عن امتعاضها من الحفاوة الكبيرة التي استقبلت بها الصين كيسنجر وبما لم يحظّ به أي مسؤول أميركي آخر، فقد صرحت بالمقابل أنها تنتظر أن تستمع منه لنتائج زيارته.. فيما تهكم فريق من المراقبين بخصوص الزيارة معتبرين أنه لم يبق إلا أن يذهب بايدن شخصياً إلى الصين طلباً لود قيادتها.
بكل الأحوال، وانتظاراً لما سيخرج تباعاً من نتائج الزيارة، يستمر السؤال نفسه: لماذا زيارة كينسجر مهمة لهذا الحد ، ولماذا التعويل عليها وكأنها آخر أوراق إدارة بايدن إلا إذا كانت هذه الإدارة تفكر فعلياً بتنظيم زيارة لبايدن إلى الصين، وربما كانت هذه الزيارة ضمن جدول أعمال زيارة كيسنجر تماماً كما حدث قبل 54 عاماً (1971) عندما زار الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون الصين، برفقة كيسنجر.. فهل نرى بايدن في الصين قريباً؟
ربما..
كل الاحتمالات واردة ما دامت الولايات المتحدة ترى الصين في موقع الأقوى.
إذاً، وبفارق 54 عاماً عاد كيسنجر إلى بكين، حيث الولايات المتحدة والصين مرة أخرى على «مفترق طرق» ولا بد من «القيام بخيار» كما يقول الرئيس الصيني، فيما يواصل كيسنجر التحذير من أن السلام العالمي يتوقف على هذا الخيار.
كيسنجر تمكن قبل 54 عاماً من تغيير مسار التاريخ- كما يُقال – بإدارة دفة السياسات الصينية 360 درجة بعيداً عن الاتحاد السوفييتي آنذاك، واستطاع أن ينسج علاقات صداقة متينة مع الصينيين، وأن يحافظ عليها على مدى عقود، وما زالت الصين تناديه بـ «الصديق القديم».. وحسب وسائل الإعلام الصينية فإن كيسنجر زار الصين أكثر من 100 مرة خلال العقود الخمسة الماضية.
وإذا كانت إدارة بايدن تريد الاستثمار في هذه الصداقة، فلا بأس أن تستثمر الصين فيها أيضاً بهدف «تغيير الآراء في واشنطن» خصوصاً وهي ترى شبه توحد في مواقف الجمهوريين والديمقراطيين تجاه العلاقات معها، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية. ولا ننسى هنا «أولئك الذين لديهم مصالح راسخة في الاقتصاد الصيني والعلاقات العامة» حسب تعبير «نيويورك تايمز» في إشارة إلى أشهر مليارديرات أميركا والعالم، بيل غيتس وإيلون ماسك، الذين يدفعون باتجاه علاقات جيدة مع الصين.
عندما التقى الرئيس الصيني شي جين بينغ كيسنجر يوم الخميس الماضي قال له: إن الصين والولايات المتحدة على مفترق طرق مرة أخرى ويجب على الطرفين مرة جديدة القيام بخيار. وثمّن صداقة كيسنجر و«مساهمته التاريخية في تشجيع العلاقات والصداقة بين الشعبين الصيني والأميركي» مؤكداً أن «هذا الأمر لم يُفِد البلدين فقط وإنما غيّر العالم أيضاً». وتابع: حالياً يشهد العالم تغيرات لم نشهدها منذ قرن، والنظام الدولي يمر بتغير هائل.
هذا هو جوهر المسألة، فهل يستطيع كيسنجر، الشهير بثعلب السياسة الأميركية، والذي يبلغ من العمر قرناً من الزمان أن يعيد تغيير مجرى التاريخ، وبعيداً عن روسيا مرة أخرى؟
اضطلع كيسنجر بدور محوري في تطبيع العلاقات بين واشنطن وبكين في سبعينيات القرن الماضي حين كان وزيراً للخارجية ومستشاراً للأمن القومي في إدارتي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد.
في عام 1971 زار الصين سراً والتقى زعيمها آنذاك ماو تسي تونغ، واستطاع إقناعه بالانفتاح على الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة، والهدف المعروف هو إبعادها عن حليفها الاتحاد السوفييتي، لتتحول الصين من الدولة المعزولة الأولى في العالم (في الستينيات والسبعينيات) إلى مقدمة الدول، وهي التي قاتلت ضد الولايات المتحدة في حربين، كوريا وفيتنام ودعمت كل الثورات ضد الرأسمالية الغربية في العالم النامي.
زيارة كيسنجر تلتها بعد سنة زيارة نيكسون إلى الصين والتي أكملت هدف شق «الجدار الشيوعي» إلى نصفين، الصين والاتحاد السوفييتي، محولة العلاقات بينهما من صداقة وتحالف إلى عداء وتوتر لمصلحة علاقات استراتيجية تاريخية بين أميركا والصين..لتنطلق بعدها الصين نحو ما يسمى «الرأسمالية المزدهرة» بعد وفاة ماو تسي تونغ.
ولكن- كما يُقال- لكل شيء نهاية، والصين التي تكاد تصل إلى قمة هرم الزعامة العالمية، اقتصادياً بالدرجة الأولى، تمهيداً لزعامة سياسية عسكرية، تطيح بزعامة الولايات المتحدة، دفعت بالولايات المتحدة إلى اعتبارها الخطر الوجودي الأول.. ولأن القوة العسكرية للصين وصلت إلى مستوى ربما تجاوز القوة العسكرية الأميركية، فإن ذلك الخطر الوجودي تحول كابوساً دائماً لأميركا.. ولأنها تعجز عن مواجهة الصين بحرب عسكرية (حتى تايوان غير مجدية هنا) عدا عن فشلها بالحرب التجارية.. ولأن هناك نظاماً عالمياً جديداً يتشكل والصين قطب قائد فيه.. ولأن الوقت يداهم الولايات المتحدة، فلا بد من إبقاء التركيز على الجبهة الصينية مع بث أكبر قدر من العدائية، وهو ما تقابله الصين بالمثل.
الصين التي احتفلت الشهر الماضي بمئوية الحزب الشيوعي الصيني، اعتمدت لهجة أكثر تصعيداً تجاه الولايات المتحدة، وفي كلمته خلال الاحتفال توعد الرئيس شي جين بينغ أعداء الصين بأن «رؤوسهم ستتضرج بالدماء في مواجهة جدار فولاذي عظيم».
إذاً، الصين والولايات المتحدة يعودان اليوم إلى نقطة البداية، ويظهر كيسنجر مجدداً في مهمة تكاد تكون مستحيلة لمنع الانهيار التام.. كيسنجر نفسه يعرف أن مهمته مستحيلة، لذلك فهو إذا ما تحدث فإن أغلب حديثه يكون باتجاه بلاده الولايات المتحدة ناصحاً محذراً.
من نافل القول أن ظروف حقبة نيكسون وكيسنجر في سبعينيات القرن الماضي تختلف كلياً عن الحقبة الحالية. لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، والتعويل على كيسنجر أو غيره بات أمراً عبثياً، ليس لأن كيسنجر فقد مهاراته في التفاوض والإقناع، بل لأن عالم 2023 ليس عالم 1971، والهدف الأساسي اليوم ليس احتواء روسيا (وريثة الاتحاد السوفييتي) بل احتواء الصين نفسها، فماذا سيفعل كيسنجر، هل سيطلب من الصين احتواء نفسها؟
هناك شبه إجماع بين المراقبين على مسألة أن الصين استقبلت كيسنجر وغيره من المسؤولين الأميركيين لتقول إنها مع الحوار ومستعدة له دائماً، ولكن بما تراه مناسباً لها وبما يصب في مصلحتها، وهي فعلياً في مركز الأقوى، وأميركا ليس لديها الأوراق الرابحة نفسها كما في الستينيات والسبعينيات.
وحتى نرى ما تحمله الأيام المقبلة، ستبقى تحذيرات كيسنجر حاضرة، إذ يقول: «الأمر أكثر خطورة مما كان عليه في السابق بوجود الأسلحة فائقة التطور التي يمتلكها الجانبان.. الولايات المتحدة ستجد أنه من الصعوبة بمكان أن تتفاوض مع خصم مثل الصين سرعان ما سيتفوق ويصبح أكثر تقدماً.. إذا لم نصل إلى تفاهم مع الصين سنكون في الوضع الذي سبق الحرب العالمية الأولى في أوروبا حيث كانت الصراعات المستمرة تحل على أساس فوري، لكن أحدها كان يخرج عن السيطرة في مرحلة ما».
كاتب وأكاديمي عراقي