نهلة يونس في رابعتها الإبداعية.. والرواية – الرسالة لمرسلٍ لا يرد!!

تشرين- راوية زاهر:
“أكاد أجزم أن أمي حملت بي في إحدى لحظات غمّها، وسوادها الفقري، ونقلتها عبر أثير الرّغبة  في بثّ ميّت إلى أبي، فندبني علقةً أو فضلةَ ما اعتصرته ذاته من كثرة حاجته إلى المال، مع شعورٍ مضنٍ بالفقر.. أو حملت بي نتيجة تسلل غير مقصود، أو مرغوبٍ به لكنه استمرّ.”..
هذا من فيض  روايةٍ دوّن على غلافها “رسالة إلى زوجي”.. رواية للكاتبة نهلة سلمان يونس، صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.. في سابقة أدبية من ناحية المرسل إليه (زوج البطلة)، وحالة أدبية مكررة من حيث فن الرسائل الذي اعتدنا عليه في تراثنا الأدبي من قبيل: رسالة الغفران للمعري، رسائل جبران ومي زيادة، رسائل غسان كنفاني وغادة السمان وغيرها من الرسائل.. و لم تقتصر على الأدب العربي فحسب، وإنما ألفناها  في الأدب العالمي أيضاً ( رسائل كافكا وميلينا).. ولكن ما ميّز رسالة الكاتبة نهلة يونس أنها إلى زوج وأشبه بجلوس من ارتكب خطيئة على كرسي اعتراف، أضف إلى أنها رسالة من طرف واحد، دون رد.. رسالة طويلة بحجم حياة، ابتدأت معها الكاتبة بتحميل ذاتها وزر الأحداث إذ جعلت المتلقي يقرأ حروف الرسالة بذاتية مفرطة،
ابتدأت من نطفة الولادة وانتهت على شرفة صباحية بفنجان قهوةٍ مرة يعيد برمجة الصبر على مقاس أنثى الضياع.. الرسالة خُطت على النفس الطويل، ضمت بين سطورها حكايات وحكايات لأجيالٍ مضت، واستمرت بالسرد الخالي من الفواصل، فكان الزمن فيها يقاس بحجم الحزن والفقر والعوز، والمكان المتشظي الذي لم يغير من سير الحدث، فقد بقي على السجية ذاتها..
أوردت الرسالة الحالة الاجتماعية ابتداء من جدة راحت تقص حكاياتها وتمارس نرجسيتها على حفيداتها، وهي من فرضت سطوة القمع على بناتها، لتعيش الأم بعدها في عبودية العمل من تشغيل الفتيات اليانعات في بيوت الآغوية في بيروت، لتعود إلى قريتها وتتحول من عبودية الاغتراب إلى عبودية زوج يرزخ تحت خط الفقر وفيض النسل لتستمر الحكاية بكامل سردها الروائي القابض على الحدث، بشخصية وحيدة ما يجعلنا ننظر إليها على أنها من النوع البسيط الذي يغرقنا في فوضى الحالة النفسية للبطلة المستمرة بعد الأم.. تلك المتوثبة، الصاعدة، المختلفة، والتي مورست عليها سياسة القمع المبرمج، سياسة خفض الطرف والترقب، والإذلال في مجتمع يقدس الذكر، ويحجم الأنثى حتى يصيرها راغبة بأن تكون ذكراً في ترداد مكرر (وليس الذكر كالأنثى)..
جعلتنا الكاتبة نرصد ما قد تكتبه لزوجها، فالكاتبة جعلت الزوج وما أحاطته به من مفردات التبجيل والتقدير في بوتقة واحدة مع المتلقي، سيتلقى الاعتراف والأحداث بنفس اللحظة، فكنا دائماً بعد هذا النداء القريب يا زوجي العزيز، يا زوجي الأغلى لم نكن ننتظر شيئاً خارجاً عن المألوف، كحدث صاعق أو حتى صاعد، رغم شعورنا بشيء خفيّ قد يجمع الكاتبة والطبيب النفسي، فالشخصية التي وجهت إليها الرسالة سرقت أي تشويق ممكن أن نتوقعه  من أنثى مختلفة، تميل إلى الرومانسية والكتابة والجرأة وعدم الرّضا، حتى باتت ترى في ذاتها عنصراً خارج إطار المكان والزمان والوجود نفسه كصحنٍ يكبها خارجه..
حاولت الخروج من المكان كحالة علاجية لما يجول في داخلها: ضياع وانهيار وعدم قبول أو رضا، أو استساغة لنشوة أمومة أو أنوثة زوجية، لكن الضياع لم يكن من علّة ترتبط بالمكان وإنما بالذات والنفس، فالفقر والحرب والغلاء والظلم الاجتماعي والفساد الإداري والتكويني في الأسرة حال دون سكينتها ورضاها.
جاءت لغة الكاتبة قوية ومعبرة، تشي  بثقافة عالية على أكثر من مستوى، أغرقتنا في أسلوب التضمين الموظّف بحرفية وخاصة من عيون الشعر العربي والقرآن الكريم : “وما من مصيبة تصيبكم إلا من أنفسكم”.. في تفصيل التشابه بين الواقع والفجيعة في بلاد نهشت الحرب تعايشها.. فضمنت الكاتبة بيتاً شعريّا معروفاً للمعري للدلالة على أنه لا حول ولا قوة.
“أسمعت إذ ناديت حيّاً
ولكن لا حياة لمن تنادي.”
وبيتاً آخر من عيون الشعر العربي:
“لقد ذكرتك والرماح نواهل
وبيض الهند تقطر  من دمي..”
وأقوال كثيرة لنيلسون مانديلا، والكاتبة (إيزابيل الليندي) وغيرهم.
فيما الحوار يميل إلى المونولوج، حتى ما كانت تقّوله لزوجها هو ترداد لا وجود له كشخصية فاعلة ناطقة  على بساط الرواية، ولا تخلو الرواية من خيوط التناص، إذ أعادتنا الكاتبة من خلال حظها العاثر إلى رواية (الشيخ والبحر) لآرنست همنغواي.
ولجهة الصّياغة فقد ربطت الكاتبة بين دالها ومدلولها بحرفية، فما آلت إليه الحال مع زوجها الغارق بواقعيته بالتزامن مع فرط رومنسيتها  كان بسبب الفقر

وقلة الحيلة، حملت اللغة أيضاً بعداً دلالياً بالانجراف وراء سراب الخلاص النهائي.. وقد تطاول السرد ليكون محمّلاً بطاقات شعورية هائلة من السلبية والضياع والذي يتناسب طردياً مع عقلية ناضجة متحررة، قافزة فوق واقع لا يليق بفكر ولا بروح هائمة واصطدامها بجدارات واقع قاسٍ جعلها في عالمٍ بعيد
غير متصالحة حتى مع أبسط أشيائه.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
عمل جراحي نوعي في مشفى الباسل بطرطوس.. نجاح استئصال كتلة ورمية من الدماغ لفتاة بعمر ١٤ عاماً «صحة الحسكة» تتسلم شحنة جديدة من الأدوية "الزراعة" تعتمد أربعة أصناف جديدة من التفاح وتدعو للتشارك مع القطاع الخاص لإنتاج البذور رئاسة مجلس الوزراء توافق على مجموعة من توصيات اللجنة الاقتصادية المرتبطة بتقديم وتحسين واقع الخدمات في عدد من القطاعات بقيمة تجاوزت تريليون ليرة.. 28 مليون مطالبة مالية عبر منظومة الشركة السورية للمدفوعات الإلكترونية أميركا تعود إلى مسار «اليوم التالي» بمقايضة ابتزازية.. و«كنيست» الكيان يصوّت ضد الدولة الفلسطينية.. المنطقة مازالت نهباً لمستويات عالية المخاطر مع استمرار التصعيد شهادتا تقدير حصاد المركز الوطني للمتميزين في المسابقة العالمية للنمذجة الرياضية للفرق البطل عمر الشحادة يتوج بذهبية غرب آسيا للجودو في عمّان... وطموحه الذهب في آسيا مسؤول دولي: أكثر من ألف اعتداء إسرائيلي على المنشآت الصحية في قطاع غزة برسم وزارة التربية.. إلى متى ينتظر مدرسو خارج الملاك ليقبضوا ثمن ساعات تدريسهم.. وشهر ونصف الشهر فقط تفصلنا عن بدء عام دراسي جديد؟