الغناء الشعبي.. طريق الفن من المهد إلى اللحد
تشرين- سامر الشغري:
يخبرنا الأديب المصري الدكتور محمد المنسي قنديل عن استفتاء جماهيري أجرته إذاعة بلاده مطلع ستينيات القرن الماضي، حول الأغنية المفضلة عند الجمهور في تلك الفترة، وكانت النتيجة الصادمة للقيمين على الإذاعة وعلى الاستفتاء أنه من بين الأغاني الكلاسيكية والقصائد المطروحة للتصويت لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش؛ فإن الجمهور مال للتصويت لأغنية شعبية بسيطة وهي (مال القمر مالو) للراحل محمد فوزي..
لقد استنتج الدكتور قنديل أن ذائقة الناس تفضل هذا النوع من الغناء وأقصد به الشعبي، الذي تجده يعبّر عنهم بصدق ويتكلم بلغتهم، أكثر من الأغاني الرومانسية والحارة وأوركسترالية التوزيع والقصائد العصماء التي سعت أجهزة الإعلام الرسمية لتكريسها عند الناس ومحاصرة أذواقهم، لكنها لم تستطع إيقاف ما سميّ التمرد الجماهيري على ما تبثه الوسائل الرسمية، فالتفّ الناس حول مطربين أمثال أحمد عدوية والشيخ إمام وغيرهم ممن جافتهم أجهزة الإعلام الرسمية..
والواقع إن الغناء الشعبي هو مبدأ الغناء لا في مصر لوحدها بل على مستوى أقطار العرب جميعاً.، فالناس لم تكن تعرف سوى مطرب الحارة أو الضيعة الذي يغني في المناسبات عن هجر الحبيب وغدر الخلان والشكوى من الدنيا، كان ذلك قبل أن يظهر الراديو والتلفزيون، عندما كان المطرب لسان حال الناس ويغني عن همومهم وآمالهم.
ومن هؤلاء المطربين كان هناك مغنية شعبية في منطقتنا اسمها (عيوش القرعة) اشتهرت بين عقدي الأربعينيات والخمسينيات، ولقبت بالقرعة لأنها لم تكن تضع حجاباً على رأسها، وكانت تغني في حفلات أعراس النساء واستقبالاتهن، ولكن أغانيها كانت تحفل بالغزل الماجن والكلام النابي، لذلك اضطر الموسيقي الراحل مصطفى هلال عندما بدأ مشروعه بجمع الأغاني القديمة أن يشذب كلمات أغانيها، وإضافة مقاطع كاملة في بعض المرات، ثم نسبها مع غيرها للتراث الشعبي الدمشقي.
ومن هؤلاء المطربين في منطقتنا أيضاً كان هناك مغن شعبي اسمه (أبو زيد عفوف)، الذي كان يستعيد على مدى نصف ساعة لازمتين فقط برتابة ودون ملل هما: “تعوا لغنا وسيارة بيضا”،. وكانت شريحة الحرفيين وأصحاب المهن الصغيرة تطرب لصوته وتواظب على حضور حفلاته.
ولكن الغناء الشعبي الذي ظلّ حتى فترة يعبّر عن المستوى الاجتماعي لمعجبيه ويحكي بلغاتهم، انحدر إلى مستوى كبير من الكلام السطحي المستخدم، والأصوات التي تؤديه، تحت لافتة الغناء الشعبي، فاختاروا أصواتاً ضعيفة جداً والتف حول الكلام الدارج وألفوا أغاني مستقاة منه بغض النظر إلى مضمونها، ولم يرهقوا أنفسهم في إعطاء الفن الشعبي قيمة، ولحنوا أغانيه معتمدين قالباً واحداً مع تكرار اللحن بنمطية، فظهرت عشرات الأغاني التافهة والتي لا تحمل أي مضمون، وادعت أنها من الفلكلور الشعبي والواقع أنها لا تمثله أبداً، للغناء الشعبي بوصفه فناً ارتبط بجذورنا الضاربة في عراقتها وتنوعها.
ومظلة الغناء الشعبي الواسعة أصبحت تظلل الكثيرين ممن ليس لهم ناقة ولا جمل بالفن برمته، فأصبح الموجة التي يركبها الجميع للوصول إلى الجمهور، ويبدو أن هذا الغناء الذي كان مهداً للفنون صار بطريقة أو بأخرى لحداً لها تأوي إليه في زمن انحدارها.