من أجيالٍ وتجارب مختلفة يقولُ الشعر كلمتَه ومن محابر الشعراء يفيضُ المددُ
تشرين- راوية زاهر:
في أصبوحة أدبية، وقبل أن تتكبّد الشمس عناء اعتلاء صهوة السماء، اجتمعت كوكبة من الأدباء والشعراء على وقع بلاغات الشعر تحت قبة المركز الثقافي في بانياس، هنا حيث صدحت كلمات الشعراء والأدباء المشاركين على مسامع متلقين قصدوا المكان احتفاء ورغبة بهذه الوجوه المميزة ببصمتها ووزنها على الساحة الأدبية السورية.. بدأت الفعالية مع الشاعر علم عبد اللطيف صاحب النظرة المنفتحة على الشعر والرواية والبحث التاريخي والفكري مغنياً المكتبة العربية بمؤلفات متنوعة زاخرة أدباً وتاريخاً.. وقد استهلّ مشاركته الشعرية بقصيدة طويلة تشعبت إلى أجزاء أربعة، كان الشعر فيها رسولاً للحب والعشق والحنين، صادحاً بمواجع الديار ونعرات الشوق.. وقد ربط الشاعر بين الشعر والمنازل المهجورة، فكان لسان حالها ينطق مواجعها شعراً، فعكس بذلك حال الشاعر وحال المنازل، وكان مرآة عاكسة نقلت فيض الشعور وأوجاعه فقال:
يا للمنازل كم حباها الشعر من أصدائه
حتى تراقص في خرائبها البكاء
ولم تبادله الرضا
أو تمنع
ولها القلوب العابقات بسرّها
ما جاهرت في بوحه يوماً
ولم تزعم براءة
خفقها أو تدّعي.
مال الشاعرإلى استخدام التعجب السماعي (يا+اللام المفتوحة بعدها) لاستعظام أمرٍ ظاهر المزيّة، وكذلك استخدامه (كم) الخبرية، وهي بمعنى كثير في محاولة لاستغلال اللغة في استجرار المعنى من مربطه، فالشيء المقصود هو الكم الهائل لصدى الحزن الذي يحمله الشعر المستوحى من الديار الخربة التي هجرها الأحبة.. وقد تنوعت قصائده، وتوّزعت بين مكانة الشعر والأماني والعمر الذي مضى على قدميه حافياً يمشي الهوينى.. ومضى يعدّ سنيّه، ومضينا نخفت بعد أن كنا في لياليه نجوماً، وهنا كناية عن زمن مضى، والنجوم كناية عن السمو والرفعة في مرحلة الشباب الأول، ليختم الشاعر بقصيدةٍ من صفوة شعره (يا للهوى) عائداً إلى أسلوب التعجب السماعي لافتاً لحظ المتلقي إلى ما يودّ الخوض فيه وتقديس مراحله وفي صمته نام الندى ومضينا جميعنا إليه.
ومع شاعرة لا ثأر لها مع اللغة، يحذوها التصالح معها، فمن «طشتها» تسحب ما يجيء إلى وحي خاطرها من مفردات، وهي الشاعرة رماح بوبو صاحبة الكثيرمن الإنجازات الأدبية، شاعرةٌ تعرفُ من أين تؤكل اللهفة، وكيف يُثار شبق المعنى، شاعرة لا قيمة عندها لعاشق نظيف، منتصر، ميّت، يخرج من الحبّ لامعاً كما دخل.. تعزف على موسيقا الأصابع، وتدوّر سبابتها على حافة كأسٍ زجاجي مترع بخمرة العشق، فتغرفك منتشياً في موسيقا لم يعزفها أحدٌ من قبل.. شاعرة حملت وزر جسدها، كتبت رسائله ملطخة بدماء القبيلة، وفي عُرفها لا حياة ترتجى لوطن نساؤه ذابلات، فللمرأة وعنها كتبت في تناصات متنوعة، ولغة ساحرة أعادتنا إلى عوالم أخرى معروفة للعوام في توظيف معنوي آسر: (تشي غيفارا، تاتش موف) لاعب الشطرنج الشهير، وهذا أحد نصوصها الذي اتحفتنا به:
كنت أكتب قصيدة
عن جسدي المشاغب الذي
أفلت يدي
وسبقني راكضاً
ليقطف الخوخ الفج
لكنني
تلعثمت
لدي جرحان يرعيان حبري
واحد مني
جنيته بعرق أخطائي
وواحد منك
أنا هنا
وبعضي لم يزل في الحلم
وكلما نويت اللحاق بي
تعلقت بي جراحٌ صغيرة
وشكَت
لمن تتركيننا نبلغُ سن الطعنة وحيدين؟؟
(…)
فأنا
أريد أن ألحق
بجسدي الذي
تاه
في الحواكير المهملة .
وبنص آخر:
و ذلك الشقيّ، لكِ.
إنّه لكِ
خذيه،
بثلاثينَ
من الشّهر
يستهلّ به الشاعر منذر حسن، صاحب فكرة الشعر يأتي عفو الخاطر، وله العديد من المؤلفات الشعرية والدراسات النقدية في كتب الأدب والسياسة.. فمن فيض المعاني أفرد للحسن هواه، ومن حارسات التخوم استمد شموخ السنديان، وعلى مساحة خضراء بسط عنوان «كن عشبيّ النّدي». كتب الموزون ليجعل من الحبيبة موالاً ويوقعنا سهواً في خطفةٍ جمالية آسرة، متنوع الرؤى والقوافي، أسير استعارات البوح:
تخطو كموّال فأنصتُ للهوى
مابين محتار به ومؤول
أحتاجُ معرفة تخوّلني المنى
كي أكون من الهواء الجهّل.
كتب قصيدة النثر بكامل لياقتها وجعل من الأخطاء شيئاً محسوساً يتدحرج بين أقدام المارة، معتمداً الانزياح اللغوي وأنسنة الأشياء، مستخدماً تارة لغة الأرقام، فالرقم ثلاثون، هو الرقم الذي وهب فيه نفسه لمحبوبته، هذا الرّقم الدّال في عرف التقويم على نهاية الشهر، وفي عرف الشاعر لربما دالٌ على نهاية الحكاية، وربما بدايتها، وربما نهاية الحلم.. وعلى مسافة صمتٍ، يطالعنا شاعر حديث من عصرٍ عتيق، لا كرّاسات في يده ولاعناوين على ورق، الشاعر حسان شريقي شاعر ارتجاليّ استعاد ذكرياتٍ مضت، ونبش في جرح غائر، وهو فلسطين الجرح المنسيّ المهمل، وأعاد تذكيرنا بشعرموزون مصفّى بقصيدة عن الطفل الذي اغتيل في أحضان أبيه، وقضيته التي هزّت ضميرالبشرية «محمد الدرة»، ليتابع بأسلوب جذّاب رشيق سرد حكاية ممتعة، يتخللها اعتذارعلى هيئة قصيدة، لتشفع له عن تأخيره عن عرس أقرباء له، والشرط كان التغزل بعروسة الحفل، مشروطاً بتصفيق الحاضرين وليرة ذهبية، ليسحرنا بقصته، فتفترّ الشفاه، وتشوقنا الأحداث، فنرى في قصته لوعة استحضار الشعر في ظلّ غياب المحفز إلا من ليرة الذهب، فالعروس لاجمال يرتجى ولالغة تستنهض حتى منّ الله عليه بظهور أم العروس التي ظهرت على حين شعر، فأوقدت في قلب الشاعر لهيب الحب والغزل، واستطار لبه أمام جميل ما ظهر، لتتفتق القريحة، وينثال الشعر من القلب انثيال الماء من بين الأصابع، غلبت الدهشة، والرغبة والجرأة وأعادنا شريقي إلى ذاكرة حكواتية المقاهي والجمهور المنفعل أمام فرادة حكّاء شاعر.
ليختم اللقاء بآخر شعراء الفعالية مع الشاعر مفيد عيسى أحمد، تحدّث عن الحرب مطوّلاً، عن الحبّ، عن مريم، عن الأنبياء والقديسين، عن المسامير وطلقات الرّصاص.. وأرسل قصيدة وداع لصديق غيّبته الأقدار (الشاعر محمد الحسين).. اشتغل الشاعر على تقنية التناص بحرفية، إذ ربطنا فكرياً وشعورياً بالماضي بمظلومية جدلية قديمة، قصة صلب المسيح والمسامير والتعذيب ويهوذا.. وإسقاطه على عالمنا المملوء بالوحشية والضغينة والحقد والمسامير التي تنتظر أن تُدقّ في النعوش.. فالشاعر يرى ضرورة انتظار قيامة المسيح ومعجزات السماء، وهذا من قصيدة (مسامير كافية للصلب):
عمي الذي عاد من الحرب ثلاث مراتٍ
رسم صليباً فوق باب بيته
علّق جرساً بزيتونة عتيقة
وقال:
لابدّ أن يأتي يسوع
أوعلى الأقل أمّنا مريم
كان مشعثاً كشجرة سرو
يدقّ الجرس مرات في اليوم
ويردّد:
لابدّ أن يعود يسوع
فثمة أخشابٌ ومسامير كافية للصلب
والكثير.. الكثير من الخطايا والدم.