فيلم «التيتانيك» بعد مرور ربع قرنٍ على إنتاجه.. أسطَرة الحبّ وتمجيد للموت والرسائل السياسيّة
تشرين- سامر الشغري:
عندما عرض فيلم الكوارث الملحمي (تيتانيك) للمرة الأولى قبل ربع قرن، لم أنْشده كما أغلب الجمهور آنذاك إلى قصة الحب الدرامتيكية بين جاك وروز، ولا إلى التضحية الاستثنائية التي أقدم عليها ذلك العاشق المقامر، ربما لطبيعتنا العاطفية كشرقيين التي تجعلنا نفتدي من نحب، وأن ننظر إلى ذلك بصفة الواجب لا الأمر الخارق، ألم يغير عبد الحليم حافظ في قصيدة نزار قباني (قارئة الفنجان) فجعلها تقول: (يا ولدي قد مات شهيداً..من مات فداء للمحبوب).
والواقع أن ما شدني للفيلم هو تلك الرؤية الفلسفية البانورامية التي قدمها كاتب ومخرج الفيلم جيمس كاميرون للموت وشعور الإنسان حياله، وكيف يتصرف عندما يعلم أنه ملاق حتفه لا محالة.
في ثلث الساعة الأخير من الفيلم، وعندما أدرك ركاب السفينة جميعاً أن تيتانيك غارقة حتماً، وأن زوارق النجاة لن تنقل إلا ثلثهم فقط، نقل كاميرون كاميرته على شكل تقطيعاتٍ ملاحقة مشاعرهم وردود أفعالهم، ليرصد لحظاتهم الأخيرة، بين مستسلم ومنتظر ومتعال وخائف لدرجة الهلع.
لقد كان كاميرون ذكياً جداً عنما دمج العنصر الحكائي لقصة الحب بين عاشقين، وبين التوثيق التاريخي لشخصيات حقيقية ركبت في تيتانيك وغرقت معها، من توماس أندروز مصمم السفينة الذي لم يشأ أن يتركها ليركب أحد زوارق النجاة بل فضل الغرق معها، والكابتن إدوارد جون سميث قبطان السفينة الذي دخل مقصورة القيادة واختار الموت على الدفة، وبنيامين غوغنهايم ذلك النبيل العتيق رفض ارتداء سترة نجاة وفضل الغرق بزيه الأرستقراطي، والمايسترو والاس هارتلي ظل يعزف حتى النهاية مع فرقته والسفينة تغرق، والأب الكاثوليكي توماس بايلز أخذ يجمع الركاب المذعورين ويدعوهم للصلاة وطلب الاعتراف وتقبل الموت برحابة صدر.
ولقد أعاد غرق الغواصة «تيتان» وهي تبحث عن حطام التيتانيك في الشهر الماضي إلى الأذهان تلك الكارثة، والتي لا تزال تصنف رغم مرور 111 سنة على وقوعها كأكبر كارثة بحرية، وإذا باسم تيتانيك يتصدر محركات البحث للتحري ومطابقة المعلومات، فالجمهورعندما عرض عليه الفيلم قبل خمسة وعشرين عاماً تقبل وقائعه كمسلمات لأنه لم يكن لديه خيار ثان، بينما جمهور اليوم تتوافر لديه هذه الإمكانات بسهولة، وسوف يعرف أن جميع شخصيات التيتانيك حقيقية ماعدا البطلين، وما يمتّ لهما بصلة قرابة أو صداقة.
ولم تكن إعادة عرض الفيلم في صالات السينما العالمية بمناسبة ذكراه الخامسة والعشرين هي الحدث في حد ذاته، بل قد جهدت الشركتان الموزعتان للفيلم توينتيث سينشري ستوديوز وبارامونت بيكتشرز لاستخدام تقنيات جديدة مع إعادة عرض تيتانيك، من خلال تقنية 3D التي تقوم بعرض الصور والفيديوهات بشكل يبدو كأنه طبيعي، حيث تتضمن الصورة أبعاد العمق والعرض والارتفاع، وتقنية 4K التي تحقق دقة شاشة فائقة الدقة.
ولكن رغم إعادة العرض، ورغم أن كثيرين من المشاهدين العرب شاهدوا الفيلم مرات عدة، فإن القليلين منهم من انتبهوا لرسائله السياسية، وكيف صور شخصياته وفق انتماءاتها، بين العرب كشخصيات عصبية نزقة يعنفون نساءهم، وبين الشخصيات اليهودية التي قدمها الفيلم بصورة إيجابية.
وحين يبحث جاك وروز عن طريق للنجاة من الطوابق السفلية للسفينة والمخصصة لركاب الدرجة الثالثة، يلتقون بأسرة مؤلفة من أب وأم وأطفال يبدون من لهجتهم لبنانيين أو سوريين، إذ نجد الزوج يصرخ على الزوجة بغضب، وهو يحاول أن يقرأ ببطء وبإنجليزية ركيكة طرق الصعود إلى ظهر السفينة من لوحة توضيحية، ولنا أن نتوقع أن هذه الأسرة كانت من أوائل الغارقين.
أما الشخصيات اليهودية التي قدمها كاميرون في الفيلم، فظهرت كأبطال يواجهون الموت بشجاعة، من الضابط الرابع وليام مردوخ الذي قاد عملية نقل النساء والأطفال ضمن زوارق النجاة وسط استسلام قبطان السفينة، ولكنه عندما يطلق النار بالخطأ على توماس ريان صديق جاك، يلقي التحية للضابط الأعلى، ثم يطلق النار على رأسه وتقع جثته في المحيط ليكفرعن خطئه.
وكذلك الزوجان اليهوديان أسيدور وإيدا ستراوس اللذان فضلا الغرق، وهما يحتضنان بعضهما على سريرغرفتهما، بعد أن رفضت الزوجة أن تغادر السفينة من دون رفقة زوجها.
لقد ظل غرق هذه السفينة منجماً يشعّ بالأسرار، ويغري في البحث عنها وتقديمها للشاشة، ويصور الحدث برؤى مختلفة مع إسناد البطولة لشخصيات متباينة في كل مرة بهدف إيصال رسائل سياسية، كما فعل النازيون عندما أنتجوا فيلماً ضخماً عنها سنة 1942، وصوروا هذه الكارثة كنتيجة للطمع والجشع البريطاني في جني الأرباح، وقدموا شخصية ضابط ألماني على أنه البطل المنقذ.