في ثالثتها الشعريّة «سوسن الحجة» تتأرجح بين ثالوث الشعر والظلّ والمرايا

تشرين- راوية زاهر:

«كلّ شيءٍ يشي بالسحر،

حتى النوارسُ المعلقةُ

على أطراف الكلام،

تكاد تطيرُ..

الغيمة تداعبُ الشمسَ

تقسمها إلى بيتين:

الأوّل للشّعر،

الثاني للعصافيرْ..»

(امرأة تسرق الآلهة)؛ المجموعة الشعرية الثالثة للشاعرة سوسن الحجة بعد (عشبة الأزرق و هذيان الفضة)، والصّادرة مؤخراً عن دمشق، الهيئة العامة السورية للكتاب، بعشرة عناوين لنصوصٍ شعرية، جلّها يميل إلى السّرد الطويل، وعنوان فقط يحمل بصمة الوميض وشعر الهايكو.

نتوقّف بدايةً مع العنوان «امرأة تسرق الآلهة»: عنوان غريبٌ، ولافت، يقود مخيلة المتلقي إلى زمن الأساطير العتيقة، فأي امرأة هذه التي تحسب نفسها قادرة على سرقة الآلهة؟!، وكأنها رسمت حتفاً مجلجلاً لعظمة «عشتار» إلهة الخصب والجمال، و«أفروديت» و«عنات» وغيرهن ممن فردن أجنحتهنّ، وهنّ يحكمن بكل ألوهية أزمنة الأساطير.

العنوان تقليدي من حيث اختيار الشاعرة عنوانٍ إحدى القصائد وجعلها عنواناً على مغلّف الكتاب، لكنه صارخ من حيث حضوره الآسر وآفاقه التخيلية الممتدة..

اعتمدت الكاتبة في طيات مؤلّفها على استخدام (الأنا) بطريقة صاخبة، حتى باتت ضمائر المتكلم غازيةً لكلِّ حضورٍ، ولكلّ متنفسٍ من حروفها، فالأسلوب ذاتيّ بحت، بعيدٌ كل البعد عن الموضوعية، وعن أيّ حدث يدور خارج فلك أناتها.

«أنا في عزلة عن أناي،

أنا الساكنة..

بينما العالم يجفّف وقته.»

الشاعرة والمرايا

وكما عند المصريين القدماء، المرآ ة لا تستخدم فقط للزينة والتجميل، بل كانت تعطي معنى الوجود، حيثُ يرى الشخصُ انعكاساً لصورته، فتدلّ على أنّ الشخص مازال على قيد الحياة، وهذا ماعكسه استخدام الشاعرة للمرآة بشكل شرهٍ، فالمرآة كانت عندها لغرض انعكاس الحياة وديمومة الحضور والوجود، حتى بات يلفتك هذا الكم الهائل من مفردات المرايا بكل انعكاساتها في تقعرها، وتحدّبها، وتحديقها، حتى في تحولها في مكان ما إلى محبرة (أجسّ حبر مرآتي).. فكانت لهذه المرايا ناهيك باندساسها العابر بين حروف النصوص قصيدتان طويلتان تحت عنوان (مرآة مقعرة)، و(المرآة طفلة) ومنها أخذنا هذا النّص :

«خلف المرآة تحتشدُ الحكايا،

وفي الكون تتناثر الفضّةْ..

السماء صخرةْ،

البحرُ فجوةْ،

الأصابع دوائر خفيّةْ،

والقلبُ هاويةْ

فقدتِ الاتجاهاتُ صفتها..

لا تكترث لك الرياح،

لستَ فخّاً،

لستَ طيراً،

ويهدرُ الوقتُ خلاياه في خلاياكْ.»

الشاعرة والظّل

لم تتوقف الشاعرة عن استخدامها الرمز، فكان وسيلة تعبيرية خادمة لاستنساخ الدلالة والولوج في عالمها المنفتح على الطبيعة، فاستخدمت الظلّ بإتقان، وكان لجماليات الظلّ وإحالاته حقلٌ واسعٌ من الدلالة، إذ إنّ ظلال الأشياء والكائنات لا تنتهي ولا تموت إلا بموت الشيء.. فرمزيّاً يحمل الظلّ فكرة البقاء والخلود عند إحالته إلى تراث أو تاريخ، وكذلك يرتبط معناه بالضوء، فالظلّ انعكاس لعالم الحضور بعيد عن انعكاسات العتمة، ما يحمل قيمة حضورية تتقصّد الشاعرة إيصالها للمتلقي.. وفي قصيدة (رصيف الكون) تقول:

«أتسللُ بين ظلال:

ظلٌّ غريبٌ…ظلّ كئيبٌ

ظلٌ يختنق.

ظلي الطفلُ:.ينهبُ السموات

أتبعهُ.. أتوهُ

ياالله.. أشبه كلّ الكون

لايشبهني أحد.»

والحقل الأجمل كان في فصلٍ متفرّد يميل إلى الحكمة واستخلاص العبر معنوناً بـ «فيتامينات» وهو لقطات شعرية متنوعة، موّزعة بين الومضة والهايكو، فالوميض فيها كما أسلفنا قائم على العبرة والحكمة وأشياء استخلصتها الشاعرة من تجارب وعصارة الحياة بأسلوبٍ رقيق ومفردات معبرة قريبة من أيسر الصدر.. ومنها بعض هذه اللقطات الساحرة :

«الموسيقا: وجه اللغة في مرآة الروح

مرآة الأرواح الهائمة

جناح الروح إلى الخلود.»

وومضة أخرى :

«رسالةٌ صامتة

أبلغُ من كتابٍ ثرثار.»

«الشعر :

ابنُ الرّوح

الضّال.»

اللغة والشاعرة

تمتلك الشاعرة رصيداً هائلاً من المفردات، والصور والانزياحات اللغوية القائمة على المجاز ، وقد مالت إلى المحسنات البديعية، فلمسنا الطباق بنوعيه الإيجابي والسلبي كتعبير عن حالةٍ شعورية غارقة في التخبط والقلق: (تنظرُ إلى جلدك تعرفه لاتعرفه

تمشي إلى جانب الرّيح/ تعصف بك لاتعصف). طباق سلب.. (لاشيء يقترب/ لاشيء يبتعد) طباق إيجاب.

وتكرار لبعض المفردات والحروف في خلق واضح لمصادر الموسيقا الداخلية.. كما استخدمت الشاعرة في لغتها مفردات تنتمي إلى معجم الطبيعة بشكلٍ كثيف أوقعنا في سهوة الانخطاف في مرابعها، فحضر البحر واشرأبت الريح، والسماء، والغابة، الماء، والمطر، وقوس قزح، الشجر والعطر والصخور.. وكان الشعر هو العين الثالثة للشاعرة:

«بعيني الثالثة أرقبه، إنه البعد الآخر»

ومن أبهى الصور البيانية التي عجّت بها النصوص الاستعارات المكنية من قبيل: (آذان الأصداف، إبط السماء، الزمن يشيخ، تتعرّى اللغة، تخونه الدهشة) في أنسنة وتشخيص واضح للطبيعة، ما يعطيها الحركة والاستمرارية مع هذا الفيض المعنوي الذي تحمله الصور .. وكان استخدام المضارع بشكلٍ كثيف (يقرؤها، تحذف، أعجنُ…..).. وكذلك استخدام التشبيه بكلّ أنواعه بغية تحريك المشاعر والأحاسيس وإعمال الفكر وترويض الخيال: (الحبّ رئة ثالثة) تشبيه بليغ (قوافل الأفكار، خشب الحزن، إناء المستحيل،) تشبيه بليغ إضافي، ولايمكننا المرور من دون التوقف على أسلوب الشاعرة وتشبيه الحسي بالمعنوي مثل: (خيمته تنزفُ فجيعة). فالخيمة شيء محسوس يدرك بالحواس، تنزف كذلك حدثاً يمكن ملاحظته بالعين، أما الفجيعة فشيءٌ تجريدي خالص الدلالة، كما غلب على النص الأسلوب الخبري ليسرد لنا الحالة الشعورية للشاعرة، وخاصة أنها استخدمت الأسلوب الذاتي.. وكان لابدّ من الختام عند النص الذي يحمل اسم العنوان لنستخلص كيف حصلت امرأة القصيدة على شرعية سرقة الآلهة:

«أيها البحر:

انشرني بعضاً من ملوحتكَ،

والكثيرَ من مائكَ،

كالماء أتكسّرُ

الصّخرُ أتبعهُ

شيءٌ ما في عزلة البحار

يدركني

ولا أدركهُ

أتسلّق عتبةَ البحار

امرأةً تسرقُ الآلهة.»

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار