عرض «أوهام»… جاذبيّةُ السقوط إلى الأعلى!
تشرين- جواد ديوب:
يتلاقي -في حدهما البشريّ المتطرّف- كلٌّ من جاذبية الهاوية و«وهم» السلطة/السيطرة، إذ إنّ شيئاً ما من بقايا الغريزة البدائية هي ما يحرّك البشر أينما كانوا، وكيفما تحركوا، ومهما صغرت تجمعاتهم أو ضاقت سُكناهم، طاقةٌ واهمةٌ منفلتةٌ غير متعقلة تحدوهم نحو أن ينتزعَ كل فرد منهم السلطةَ المطلقة على الآخرين ليتلذذ بأن يفعلَ بهم ما يُسلّيه ويمتّعه، ويضعُ على فمِه ذاك التقوّسُ الأبله الذي يُسمى: ابتسامة المنتصر!
يمكن لهذه المقدمة الموجزة وحسبِ رؤيتي الشخصية أن تكونَ جسرَ عبور نحو العرض الذي قدّمه طلاب السنة الرابعة في المعهد العالي للفنون المسرحية/قسم الرقص كمشروع تخرج لهم بإشراف أستاذهم معتز ملاطية لي الذي يهدينا في كل مرة أملاً عنيداً بأن هناك في هذه العتمة التي نعيشها لاتزال تومِضُ نجمة الإبداع على هيئة أجسادٍ راقصة.
فمنذ اللحظة التي يتدحرج فيها بَشَرُ العرض أمامنا من أعلى أوهامهم إلى سحيقِ الهاوية/الخشبة أمامنا، نشعرُ بضيقٍ مغلّفٍ باللون الأحمر المعجون بأسود يجعلُ من الأجساد المتدحرجة مجرّد كتلٍ من اللحم المتكوّم المشلوح المبعثر المتروك في عراءِ عدم الاهتمام! هكذا بدتْ أجسادُ الراقصين/أجسادنا، تطوِّحُها فكرتُها عن التسيّد تارةً، وفكرةُ/وهمُ الآخرين الراغبين في قمعها لمجرّد أنها تحاول الانعتاق أو الفكاك من جحيمية واقعها.
واقعٌ يسحق تلك الشخوص، ويحوّلها إلى كائناتٍ مَوتورة عُصابية نزقة، إذ يصبحُ التلامسُ خرمشةً، والتلاصقُ تزاحماً، والرغبةُ في الحب توجساً وشكّاً، والحلمُ الطبيعي بالتميز رغبةً في القمع والتهميش والإذلال… دوّاماتٌ من هذه التعنيفاتِ البشرية صفعنا بها الراقصون، خاصةً حينَ يتسابقون ليقتنصوا مركزَ السيادة على مجسمٍ مصنوعٍ بذكاء ليبدو كما لو أنهم في الوقت الذي يتسابقون فيه بشراهةِ على قمّة الهرم؛ هم يتسابقون فعلياً على موتِهم/قبرهم/هاويتهم ككائناتٍ عاقلة.
تعنيفاتٌ وقتالٌ، ركضٌ وارتطاماتٌ، ملاحقاتٌ وشجاراتٌ صامتةٌ كقنبلةٍ موقوتةٍ أجّجتها نقراتُ البيانو صخّابة هادرة وموسيقا تشيللو ملائمة تحزُّ جراحَ كائناتِ العرض وتستفزّ بلادةَ تعوّدنا على ما نحن فيه.
تتابعُ الفقرات جعلنا نشعرُ كما لو أن الطلاب أرادوا لنا في أحد المشاهد الخارجة عن «ثيمة» العرض، أن نفهمَ أنّ الحب قد يكون هو الخلاص الوحيد والمَخرجُ الممكن لكلّ أوهامنا: وهمُنا عن أنفسنا وفرادتها المزعومة من دون وجود الآخر، وهمُنا عن السيطرة والسلطة والتفرّد بها، وهمُنا عن القوة المفرطة ضد الآخرين الذين نتشارك معهم الهواءَ والشمسَ والليلَ والنهار… حيث شاهدنا مجموعات الطلاب المرشحين لنيل إجازة التخرج (الزهراء هابيل -سليم رضوان- كرم أبو قاسم- نجيب الحكيم- وجد منصور- يوسف إبراهيم) وبقية طلاب قسم الرقص جميعهم على الخشبة مع موسيقا أكثر لطافة وحركاتٍ محببة فيها من التوادُدِ والتلاطفِ والتلامس والخِفّة ما جعل المشهد يبدو مثل فسحة تنفّس وسط الجحيم!
جحيمٌ لا يلبثُ أن يلسعنا بنيرانه، ويتدحرجُ فوقَ كائنات العرض مثل مدحلةٍ من شوك هي نفسها كتلةُ أوهامنا المتكبكبة مثل قنفذ! ولعلّ المشهد الذي تقفُ فيه شخوصُ العرض في تقابلٍ مباشر ولصيقٍ مع الجمهور كان يمكن أن يكونَ مشهداً أقوى في دلالته وأثره لو أن الإضاءةَ تركّزت على وجوه الطلاب المحملقين فينا بأعين فاغرة مهددة محذرة، بدلَ الإضاءة التي أُعتِمتْ عليهم وسُلّطت علينا!
هكذا حتى نصلَ إلى مشهد الختام الذي شكّل شِبهَ طِباقٍ كريوغرافيّ مع مشهد البداية والأجسادِ المتدحرجة، إذ نشاهد كرة كبيرة معلقة -كما لو أنها قبضةُ الزمن- تصدمُ بلا رحمة وبشكلٍ ساخرٍ وشبه كاريكاتوري كلَّ من وقفَ على المنصة الرخامية وسط الخشبة متوهماً أنه الباقي الأزليّ… في حين صدى التشيللو الحزين والبيانو الصاخب يهدر في أرواحنا مُحذّراً ومتوعّداً.