محار داؤد في «قراءة بصريّة».. بحثٌ في إنتاج أعمالٍ مُستوحاةٍ من إرثٍ قديمٍ
تشرين- لبنى شاكر:
أعمالٌ فنيةٌ مُستقاةٌ من إرثٍ قديم؛ هذا ما يبدو عليه مُنتج الفنانة محار داؤد في معرضها الفردي الثاني «قراءة بصرية»، والمُقام مُؤخراً في المتحف الوطني في دمشق، سبقه العام الماضي، معرضٌ في أكاديمية موسكو الحكومية للفنون ستروغانوف، وعلى أن المضامين الجديدة المعروضة، ينطبق عليها توصيف التناص البصري، لكونها تحفظ حقوق المُؤلّف الأول وتاريخ القطعة المُتحفيّة، عبر وضع صورةٍ للأصل مع تفاصيل عنه، لكنها أيضاً تقطع خطواتٍ بعيداً عن هذا الجذر، لِيصبح العثور على أساس اللوحة الثانية المُنبثقة صعباً، واللافت في هذه الولادة الفنية إن صح التعبير، البساطة الظاهرة في الأعمال المُستحدثة، بما فيها من خطوطٍ عفوية على أوراق بيضاء، إذا ما قُورنت بالقطع الأثرية الأصلية، بتكويناتها ونقوشها، وإن كانت في جوهرها مُستنداً علمياً، اتكأت عليه التشكيلية بموازاة أبحاثٍ ودراساتٍ نظرية، حاولتْ بموجبها التكهّن بما يمكن أن تكون عليه نتائج المنهج القديم في الفن المعاصر، وفي أولوياته إمكانية إنتاج عملٍ فنيٍّ من آخر، في مكانين وزمانين متباعدين، وتالياً حتى ترى قطع المتحف فنياً، كان لا بد من رسمها لتكون منفذاً نحو تقديم عملٍ مُعاصر منها، وهو المقصود تماماً بالقراءة البصرية.
مُصطلح توظيف التراث في الفن، مدخلٌ يمكن البدء منه، لشرح المفهوم الذي صاغت منه داؤد أعمالاً كثيرة، انتقت منها اثنين وعشرين عملا للعرض، ليس فقط بسبب الإشكالية التي تنطوي عليها مُفردتا التوظيف والتراث، إنما أيضاً لعلاقة كل منهما بالفن، تقول داؤد في حديث إلى «تشرين»: «في الأدبيات السورية من ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم، نسمع باستمرار عن تجارب ومشغولاتٍ قائمة على ما يُسمى توظيف التراث، غير أن التراث في حد ذاته لفظٌ متغير، لا يمتلك تعريفاً دقيقاً ومتفقاً عليه، لذلك يجب استبدال المصطلح ككل بآخر علمي، كالاستشهاد بالموتيف القديم «الأثر» أو الاستعارة من الإرث الماضي الفني، وفي جزءٍ من هذه الاستعارة تأتي القراءة البصرية، كمفهوم حديث، وخطوة أولى نحو المنهج القديم أو كما يُطلق عليه أيضاً الأركايكي، والكلمة مشتقة من اليونانية بمعنى العتيق، أي استقاء أو استنباط أو أخذ تصورات وأشكال ودلالات من فن الماضي وإنشاء فنٍ معاصرٍ حديث بناء عليها»
تُفضل داؤد التعاطي مع قراءتها البصرية بوصفها بُنيةً بصريةً من نظيرةٍ لها، بدلاً من استخدام كلمتي موضوع وفكرة من اثنين آخرين، تقول: «القديم والمعاصر، كلاهما عمل فني لكن أحدهما يأخذ من الآخر بعض العناصر، التي يعتمد اختيارها على تذوق الفنان وثقافته وإمكاناته»، وفي حالتها اهتمت بثلاثة عناصر، تشرح عنها: «يلفتني في القطع القديمة ما يسمى في الاختصاص «التأليف»، بمعنى علاقة العناصر بالفراغ، إضافة إلى الخط الخارجي للقطعة، وهو يمثل المستوي الحر الذي أرسم بناء عليه، ومن ثم الغرافيك الموجود في العمل، المار لاحقاً بمراحل إعادة الرسم، وإعادة التلوين، وتغيرات المنظور»، أما المواد المستخدمة فهي كما تقول الفنانة، محورٌ من أهم ما اشتغلتْ عليه خلال السنوات الثلاث عشرة الأخيرة ، وهي مواد أولية نُمهّد فيها عادةً للعمل الفني، لكنها هنا رئيسة، تشمل الإكريليك والرصاص ومجموعة من الأحبار وأقلام الحبر، مع ورق أبيض، أو ورقٍ أُعيد تدويره.
انتقت داؤد القطع الأصلية من سلسلة مجموعات، إحداها تنتمي للفنون التطبيقية «مجوهرات وحلي بيزنطية يونانية رومانية»، وبعضها له علاقة بالعمارة السورية في العصر البيزنطي، مثل كنيسة دير القديس سمعان وكنيسة المشبك، وفي مجموعة ثالثة الأدوات الطقسية المستخدمة في الكنائس، اطلعتْ عليها خلال دراستها في روسيا، منذ عام 2014 حتى نيلها الدكتوراه في اختصاص الفنون الجميلة والتطبيقية والعمارة من أكاديمية ستروغانوف، تقول: «دراستي في روسيا أتاحت لي زيارة متاحف عدة في موسكو، إضافة إلى المعارض التي أزورها، وكباحثة استطعت التجوال والفرجة في المتاحف، عبر حيزٍ افتراضي يسمح برؤية القطع المعروضة من كل الجوانب»، لكن هل أعطت الإقامة الطويلة في موسكو صبغةً معينة لتجربة داؤد أو وجّهتها في خطٍ ما، تُجيب: «موسكو مكانٌ جيدٌ جداً للتعليم، تمنحك إمكانات التعرّف والاطلاع والبحث في متاحف ومكتبات لها تاريخها، كما تسمح بالتعاون مع باحثين جديين في تخصصاتهم، هذا لا أُنكره أبداً، لكنها أعطتني فرصة لأسال نفسي عن الفن السوري، إذ كان السؤال الأكبر متعلقاً بالذات (من أنتم؟)».
الإجابة عن أسئلة الهوية والخصوصية تمثّلت في الجهد والاشتغال على الأعمال المعروضة، بدءاً من مرحلة الدبلوم التخصصي كباحثة، وفي مرحلة الدكتوراه عن المنهج القديم في التصوير السوري المعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القران الواحد والعشرين، تشرح داؤد هنا: «أعمالي حلقة تُكمل ما قدمه أساتذة درستُ تجاربهم، وهم ينتمون إلى ثلاث بيئات مُؤثرة في الممارسة الفنية السورية، خارج الأكاديمية وداخل الوسط الأكاديمي وفي نتاج كلية الفنون الجميلة، اخترتُ أسماءً تربطها علاقات المُعاصرة والخلَف والسلَف والتدريب المهني، بحثتُ في مُنتجهم للوصول إلى استخلاص المنهج الأركايكي، ولأنني لطالما أيّدت الرأي القائل بوجود ترابط عميق بين البحث النظري والعملي الذي يقوم به الفنان، لم أستطع عزل نفسي عن تقديم أعمالٍ توازي بحثي، كما أن هذا الارتباط يُعطي موثوقيةً للبحث النظري، ويُثبت صحة المنهج وإمكانية تطبيقه مجدداً، وفي السياق ذاته، فالقراءة البصرية هي المرحلة الأولى كما ذكرتْ قبل الدخول للمنهج، ما معناه، كيفية قراءة أعمال المتحف بصرياً، لإنتاج المزيد».