كأن تجميعَ الكتب له مواسمُ مثل مواسم قطاف الثمر أو الأزهار البرية الطبية! أيكون أكثرَ حين تتتالى معارض الكتب أم إن المعرض بذاته كافٍ لفتح الشهية على الشراء: عنوانٌ يأخذ إلى عنوان، وموضوعٌ يقود إلى موضوع؟ معظم الكتب التي أؤرخ دخولَها إلى مكتبتي المتواضعة تحمل وسمَ نهايات الأعوام، من تشرين الثاني إلى كانون الأول مع تبدُّل رقم السنة، وأنا أنظّم فوضاها بعد أن ضربت الحرب كل اتساقٍ في حياتنا! هي ذي رواية «ساعة شؤم» لغارثيا ماركيز ببدنها النحيل بين يديّ، أنفض عنها الغبار، وأرى عامَ طبعتها المتجددة (روايات هذا الكاتب عرفت رواجاً غيرَ مسبوق يوم بزغت شمسُ الواقعية السحرية بلغة أمريكا اللاتينية الإسبانية) ومجدّداً تذكرت أنني رأيت غلافاً لهذا الكاتب الآسر عنوانه: «ساعةُ نحس» فربطتُ بين العنوانيْن، ولم أشْترِ «النحس» لأزيح «الشؤم» لأنني وجدتُ الدلالة أقوى في العنوان الأول، وصرتُ أنوس بين المعاني: «الشؤم» هو علامة وقوع مكروهٍ ينبئ بشَرّ ويبعث على الخوف، و«النحس» هو الضرُّ والأذى وسوء الحظ! ولأنني لا أعرف الإسبانية قطعاً لكنني من دون شك ألمس روحها من وقائع الرواية، آثرتُ أن أبقى في «ساعة شؤم» وأن تبقى الترجمة الثانية رواية لا ضرورة لاقتنائها!
هناك خيطٌ رفيع في الترجمة يسمونه «الأمانة» فإذا لم يُقطع لبلوغ روح النص، بدا مثل خياطة التفصيل الدقيق على البدن من دون الانتباه أن لهذا البدن خصائصَ ذاتية لا يمكن أن تتطابق مع «مجسّم» مرسوم كأنه تمثال ناجزٌ لا يحتمل التعديل! ومن صياغة لغةٍ إلى أخرى تهوّم روحان حول «المترجم» لا يني أن يحاول توليفَهما في دَرْج النص، وإذا لم يقبض عليهما تجسّد البدن، ببراعة إتقان توظيف المفردات ضمن قواعد النحو والصرف، وضاعت الروح اللازمة كي تكون قراءته مماثلة لقراءة عارف اللغة الأصلية!
روى لي طبيب، يبدو أنه كان يتجول في المكتبات بعد إغلاق عيادته في موعدها، أنه سأل بائع الكتب عن رواية لديستويفسكي، فخيّره بين نسختين للرواية نفسها، إحداهما أغلى من الأخرى، وقد عالج دهشته بالقول: الورق هو نفسه، والغلافان مصنوعان بإتقان، لكن هذه النسخة بتوقيع «سامي الدروبي»! واكتفى بهذا الشرح! وبعدها راح الطبيب يتقصى عن اسم «الدروبي» الذي حسم النقاش بينه وبين صاحب المكتبة، فأدرك أن النصوص المترجمة تحتاج إلى «روح» وإذا فقدتها بدت حسنة الصنع لكنها تصرف النظر عن إثارة المشاعر، ومحظوظ من تقع بين يديه ترجمةٌ لا تداخلها «ساعة النحس» التي تخص لغةً أخرى لا يعرفها!