من حصى«صافون» تكويناته تنجدلُ مع الحدث السوري الفنان نزار علي بدر: أنفّذ وصيّةَ الأوغارتيين
تشرين- علي الرّاعي:
عندما أنهى النحات الإيطالي مايكل أنجلو(1475- 1564) عمله النحتي الذي جسد من خلاله النبي موسى عليه السلام، ولشدة إعجابه بما أنجزت يداه؛ صاح بملء فيه: انطق يا موسى، وفي روايةٍ أخرى؛ صرخ: انطق أيها الحجر.. غير أنّ النحات السوري نزار علي بدر استطاع أن يُنطق الحجر، وجعل الحصى تصرخ بين يديه؛ بما يُقارب من خمسة وعشرين ألف مرة؛ هي عدد التكوينات الحجرية أو الحصوية على وجه الدقة التي شكلها هذا الفنان، خلال سنوات المحنة السورية التي لايزال نزيفها مستمراً بملامح كثيرة، ومن كان نزار بدر ذلك الذي رمى حصى كبيرة قبل ذلك في المشهد البصري التشكيلي السوري بهذه الأعمال التي فارقت ذلك المشهد بعيداً عن تقليدية نتاجات المحترف الواحد.
فمن جبل الأقرع الراسخ بين محافظتي اللاذقية ولواء اسكندرون السوريين شمال غرب سورية، يأخذ بدر باعثه الإبداعي، حتى إنه ينسب اسم «جبل صافون» لنفسه، تلك التسمية الملحمية للجبل في ديانات أوغاريت – رأس شمرا القديمة ومكان عرش الإله بعل وإقامته.
ذلك أن ثمة إلهاماً يعدّه بدر أقرب إلى الوصية تشكلت عن طريق الـ (d n a ) من أسلافه الأوغارتيين، فكان أن تنادت إليه الحجارة ليترجم لغتها بصفها بتشكيلات يعدّها معزوفات نحتية، عليه إيصالها رسالةً إنسانية للعالم في وجه الحرب والدمار.
فكل حصى الشواطئ التي تستريح أمام أقدام جبل صافون، كانت في رأي الفنان بدر تنتظره طول الوقت ليأتي بها إلى محترفه، ويرسم من خلالها شواغله الإبداعية التي تتنوّع في أكثر من مستوى واتجاه، لكن في معظمها شكلت مُعادلاً جمالياً لما يحدث في سورية الجرح النازف عقداً من السنين ونيّفاً. وهو –كما يُعرّف هذه التكوينات- أشكّلُّ بحصى البحر أعمالي بعيداً عن النحت والرسم أو التلوين أي حصى طبيعية. فعلى خلفيات اختار ألونها بعناية لتبرز ألوان الحصى الطبيعية من دون تدخل كـ«الأزرق والأحمر والأبيض» أو حسب الفكرة التي يتناولها في تشكيله الحجري.. وهنا ستبدو تلك التكوينات الحجرية التي يُشكلها بدر للمتلقي من حصى شواطئ صافون، تلك المُفارقة بين عظمة الجبل الراسخ بكامل هيبته، واللغة التي تأتي وكأنها من دون جهد بجمال عفويتها وأفكارها وشواغلها وتقنياتها المتعددة، من بساطة الفنون التطبيقية، وحتى كل لغة فن الكاريكاتير التعبيرية العالية والجارحة.
فقد شغلت نزار علي بدر موضوعات الحب الذي كان عليه أن يُحارب من خلاله كل هذا الخوف والكراهية التي نزلت فجأة خبط عشواء كمنايا الشاعر زهير بن أبي سلمى. وعلى الأغلب يُجسد من خلال هذه المجموعة علاقات الحب الإنسانية المتنوعة بين قصص العشاق وحكايا الحب العائلي إلى أسطورة عشق أقرب إلى القداسة، عندما يصل إلى سورية الموغلة قدماً وعراقة وغنى وجمالاً.
ثم هناك الأفكار التي جسدت الحرب على سورية، وكل ما عاناه السوريون خلال محنتهم، غير أن الأبرز في شغل نزار علي بدرهو الأعمال التي لم تكتف بالحس الكاريكاتوري، بل انشغلت بالسخرية الخالصة والتهكم من كل هؤلاء الذين كانوا وراء خراب سورية، سواء من الفاسدين الذين هم سبب جوع السوريين، أو من الذين قتلوهم وجزّوا أعناقهم أمام راياتٍ سود. وكانت هذه اللغة الحادة التعبيرية في الكاريكاتير التي ستنوس باتجاه الرقة عندما يتناول موضوعات «فقراء سورية» وهي من الشواغل الأقرب إلى نفسه والأكثر شغلاً فيها، لغة تنوس سواء بالتكوين، أو حتى باختيار الألوان ليقدم حكاية «تعتير» بمنتهى الرومانسية.
وفي الختام يذكر الفنان علي بدر:« للأسف الشديد بعد تشكيل العمل أخرّبه لأَنِّي لا أستطيع تحمل تكلفة تثبيت الأعمال على الرخام.» لكنه يوثقها فوتوغرافياً لتبقى ملمحاً بصرياً سورياً، يعدّ بدر نفسه السبّاق في هذا المجال ورافضاً أن يبيع أي منحوتة من أعماله.