ثقافةُ الوهم ومعاركُ «اللايك» الأزرق!
تشرين- جواد ديوب:
وضعتنا وسائل التواصل الاجتماعي، رغم كل ما يقال عن أهميتها التقنية والعلمية، في مأزقٍ نفسيٍّ هو «ثقافة الوهم» أي تلك الأفكار والقناعات المبثوثة في كثير من منشورات الفيسبوك أو على شكل مقاطع «”تِك توك» والتي ينشرها أصحابها بكامل القناعة والاطمئنان النفسي إلى أن ما يقومون به هو «نشرٌ للمعرفة» و«تعميمٌ للفائدة» و«خدمةٌ للإنسانية»، تزيدُهُم -في هذا الوهم القاتل- قناعتُهم التي لا تشوبها شائبة إلى أنهم «خفيفو دم» و«فكاهيون» و«جامعو ملايين من الفانزات/المتابعين»!
وهمٌ شاملٌ ومعمّمٌ بقوة مخترعي تلك الوسائل المسيطرين بـ«خوارزمياتها الجديدة» على عقول البشر ومحوّلينها إلى «ببغاوات» تنشر،ُ وتعيد، وتوسّع، وتعمّم ما تعتقد أنه «الحقيقة» وأنه «المرغوب» وأنه بطاقة عبورها إلى «الحداثة» العالمية!
ثقافة الوهم تلك، جعلت الكثيرين ينتزِعون عشرات المقولات لمشاهير الأدب والشعر في العالم من سياقها الأدبي والتاريخي، وجعلوها متداولة بشكل مغلوط أو محرَّف كأنْ يضعون عبارة لـ(غاندي) مثلاً على لسان (جبران خليل جبران) أو ينسبون جملة مؤثرة لمجرد أن فيها «موعظةٌ ما جميلة» ينسبونها لـ«دوستويفسكي» أو غيره.
بل وصل التشويه إلى أن بعض عباقرة «السوشيال ميديا» يكتبون أقولاً تافهة ونُكتاً سخيفة يعتقدون أنها مضحكة، ويلصقونها بأولئك الأدباء الذين سترتعدُ عظامُهم في قبورهم فيما لو عرفوا في أي مهزلةٍ وضعهم فيها «عشاق الحكمة» الفيسبوكيون (طبعاً لا أتحدث عمن يفعلون ذلك عارفين بالضبط أنهم يفعلون ذلك كنوع من رد فعل ساخر ولمّاح ومضحك)!
هكذا إذاً، يغطسُ البعض مبتهجين في التشوّش والضبابية واهمينَ بأنهم إن رددوا تلك المقبوسات سيصبحون من أصحاب الرؤى والنبوءات، في حين البعضُ الآخر «يلطش» ويسرق، وينسخ، ويلصق أفكار الغير بوقاحة الادّعاء بأنها له!
قد يقول أحدهم: «إن الأفكار مشاعٌ ملقاةٌ على قارعة طرقات الفيسبو، ويحق للناس تداولها»! نعم، لكن حبذا لو فعلوا ذلك بالكثير من الدراية والقليل من آداب الاقتباس الفكري، ويبدو أنه في عالم الغبَشِ المُزرق الافتراضي، هذا محكومٌ على المرء بأحد أمرين: إما أن يكونَ جاهلاً ومطوَّباً مع الكثير من «اللايكات» الزائفة، وإما أن يكونَ مُدرِكاً وعارفاً وصادقاً… ولو مع «أعجبني» واحدة على شكل قلب!
لكن على سيرة «اللايكات» ولأن حال البلد ليست كما نتمنى؛ سنتسلّى بأن نطهو أحلامَنا على ما تبقّى من نار الحبّ المتخامد الذي لم نعد نعرف كم سيطول حتى يتحوّلَ إلى رماد، سنتسلى بما يُتيحه لنا هذا الفضاء التواصلي المدهون بالأزرق، وستصبحُ مسألة مَنْ وضعَ «لايكاً أزرق» ومَنْ وضع تلك الـ«أدعمه» المحببة…ستصبحُ حرباً عير معلنة، لكنها مؤثرة فعلاً، و«واقعية» إلى درجة أنها مشوشة للتفكير والتوقعات، ومنغّصة لقلوب المحبين والعشّاق، إذ إنّ هناك من «لايكُه» مثل الهمِّ على القلب، تَشعُرُ معها كما لو أنَّ مغناطيساً بوزن مِدحلة كان يشدُّ اليدَ التي وضعته، وهناك مَنْ يخبّئون «لايكاتهم» الزرقاء لأيامهم السوداء كمَنْ على مصلحةٍ مع الحياة ومع الآخرين باعتبارهم منفعةٌ محتملة، وهناك من تشعرُ كما لو أنهم ورثوها عن أهلهم وراثةً وعليهم أن يضعونها في«بيت الفئران».
ورغم تعدّد خيارات «الإيموجي» وقلوب الحبّ الملونة بألوان قوس قزح فإن هناك من تلتصق «اللايك الزرقاء بإصبعه أينما حلَّ وارتحلَ ومهما تصفّحَ منشوراتٍ تُحفة فإنه لا يعلّق ولا يشارك ولا يتفاعل إلا بها مهما عصفت عواصف الفيسبوك أو اشتدت رياحُ «التك توك».
وبعيداً عن أولئك المثقفين المتخمين بأنفسهم، والذين يعدّون أنفسهم أكبر حتى من أن يتنازلوا ليضعوا «لايكاً» مجاملاً لأحد بكونهم المطوَّبين المكرَّسين كأنصافِ الآلهة وأنصاف البشر… هناك من يضعُ «لايكاً» واحداً فقط ومن دون أي تعليق، لكنه كمَنْ يُبلسم لك جرحاً، أو كمَنْ تحتضنك بهدوء العاشقة، أو كمَنْ تستمعُ إلى وجيبِ قلبكَ في هدأة الليل الداجي.