كتاب «دراسات في الحب» سمومٌ عنصريّة في قالب كاتو!!

تشرين- جواد ديوب:
سيصاب بخيبة أمل كبيرة من يقرأ هذا الكتاب بنيّة أنه سيجد حلاً سريعاً يجعله يحبُّ اليومَ وفوراً، أو أنه سيجد علاقة جديدة مع شريك/شريكة ملائمة من مبدأ النصائح التي تقولها البصّارات في جلسة سرية بخمسِ حصيّاتٍ وناب أفعى وقرني غزال!
بل أعتقد أنّ هذا النوع من الكتب مخصص للشجعان من الرجال والنساء الذين لا يخافون أن يقولوا إنهم بحاجة لعلاج نفسي لحالات نعانيها، وتؤثر في حياتنا وحياة من نعيش معهم، شجاعة من يريد أن يحسّنَ شرطَه الإنساني، وقدرتَه على فهم نفسه والآخرين، وتالياً امتلاك شيء من الإرادة لجعل علاقات التواصل البشري من حوله أكثر «طبيعيةً» وتلقائية ومردوديةً وجمالاً.
لكن الجهد الفلسفي الكبير وحجم القراءات التاريخية والاجتماعية التي قام بها الإسباني «خوسِه أورتِغا إي غاسّيت» (ولد عام 1883 وتوفي عام 1955) في كتابه المميز«دراسات في الحب» (إصدارات وزارة الثقافة بترجمة من علي إبراهيم أشقر) يبدو أنها كلها لم تمنع «الفيلسوف الإسباني العريق» من أن يورد بعض الملاحظات التي تحمل في طياتها نوعاً من «نزعة عنصرية» مستغرَبة، أو «تمييزاً عنصرياً» مستهجَناً تجاه أقوام وأعراق بشرية نتشارك معهم، على الأقل، في الشرط الإنساني، إن لم نقل في كل ما نفاه عنها من «مشاعر وأفكار وثقافة»!
فخوسه أورتغا يقول حرفياً: «الحب إبداعٌ أكثر مما هو غريزة، وهو كإبداع ليس بدائياً في شيء عند الإنسان، فالمتوحش لا يتصوّره، والصيني والهندي لا يعرفانه، وإغريقيّ عصر بيركليس يكاد يلمحه لمحاً»!
هل يعقل أن يقول باحثٌ مثلَ هذا الكلام، وهو مَنْ يشدّد على طول الكتاب تمسكه بـ«روح البحث العلمي»؟!، ما هذه النزعة العنصرية تجاه أعراق؛ بل حضارات بشرية يجدها «أدنى» من أن تعرِفَ الحبَّ كما يعرّفه في نظريته؟! وكيف استخلص هذه النتيجة؟ متى وكيف تمّت دراسة تلك المجتمعات بتاريخها القديم وتشكيلاتها المعرفية وتعقيداتها الدينية ليتم الحكم عليها بهذه الطريقة؟ وحتى لو كانت هناك دراساتٌ سابقة تمت من قِبل «المبشرين» الأوائل الذين عملوا على نشر رسالتهم الدينية عند «القبائل نصف المتمدنة»… ألم يكشِف التاريخ أن بعضها كان نوعاً من الكتابات «الاستشراقية» التي أسقطت على «الشرق» ما يشتهيه «الغرب»!؟، وماذا عن «المهابهاراتا» الهندية؟ وماذا عن ملحمة «فراشَتَان» الصينية؟ وفي أي خانة يمكننا تصنيف ملحمة «جلجامش» الرافدية؟ ألم يعرف الحبُّ طريقاً لهذه الأعراق و«القبائل»!؟.
النزعة العنصرية يبدو أنها تتحول أيضاً إلى شيء من نزعة طبقية عند خوسه أورتيغا إي غاسّيت حين يتحدث عن الطبقة البرجوازية (الإسبانية) بأنها بلا مشاعر، بل لا يمكن لأناسها أن يحبِّوا: «إن الرجال والنساء كلهم تقريباً يعيشون غارقين في جوٍّ من مصالحهم الذاتية، وبعضهم على كونه جميلاً ومحترماً بلا ريب، عاجزٌ عن الشعور بالقلق للهجرة إلى أبعد من ذواتهم(…)وبرغبة قاسية في الذهاب من الذات إلى الآخر، لذلك يصعب على البرجوازي الصغير والمرأة البرجوازية الصغيرة أن يحبّا بشكل صادق، فالحياة في نظرهما إلحاحٌ على ما هو معروف ومألوف»!
نجد هنا بوضوح أن في هذا الرأي تشويهاً صادماً للوقائع, من المستغرب أن يصدر عن باحث وفيلسوف، إذ يمكننا القول ببساطة: ليس الموضوع متعلقاً بطبقة اجتماعية معينة، فالحكايات التي تروي لنا عشقاً مشبوباً بين امرأةٍ برجوازية وشابٍّ فقير، كرواية د. إتش.لورنس الشهيرة «عشيق الليدي تشاترلي»، أو العكس بين رجلٍ ثريٍّ وفتاةٍ فقيرة، هي قصصٌ كثيرة، وتشير بوضوح إلى أن المسألة متعلقة بالطبائع البشرية أو بـ«دوافع الأنا» النفسية العميقة أكثر مما تتمحور حول خصائص طبقية واجتماعية! ثم ألا يجد الحبّ طريقه أيضاً إلى قلوب الناس البسطاء الهامشيين الذين وضعهم شرطٌ اقتصادي وسياسيٌّ ما، من مرحلة تاريخية ما، في هذه الخانة الاجتماعية؟.
لو دققنا في السيرة الذاتية للباحث خوسه أورتغا إي غاسّيت سنجد أنه، في حملته القاسية على البرجوازية عموماً وعلى البرجوازية الإسبانية تحديداً، ينطلق، ربما، من دوافع لها علاقة بفكره الأيديولوجي وانتمائه لليسار الليبرالي الإسباني.
لكن غاسيت يقول أيضاً: «قد يكون للحب (ارتباط) مع بعض الغرائز الكونية الراقدة في كياننا، وأعتقد أن الحب هو كليّاً نقيض قوة أوليّة، وأكاد أقول إن الحب يبدو جنساً أدبياً أكثر مما هو قوة أوليّة..» و يفرّق غاسّيت بين «الرغبة والحب؛ فالرغبة في شيء هي ميلٌ لامتلاكه، أي أن يدخل هذا الشيء في مدارنا ويشكل ما يشبه جانباً منّا، لذلك تموت الرغبة آليّاً إذا حُصل عليها وتتلاشى عند إشباعها. أما الحب فهو عدم إشباع دائم.. هو أن أذهب أنا إلى الشيء وأكون فيه، ففي الحب كل شيء هو نشاط»… بل وبتحديد أكثر بين «الهوى» و«الحب»، فـ«ليس الهوى ذروة الرغبة في الحب، إنما على العكس، تدهورها في نفوسٍ دنيا، إذ يوجد هوىً ضخم من غير محتوىً هام من الحب..»! “عشقٌ وجذبٌ أو غيبوبةٌ ووجد»!

ومع التقدير للشرح المهم والدقيق الذي يقدمه لنا غاسّيت للتجربة الصوفية وتقاطعاتها مع «الجذب في العشق» أو«غيبوبة العشق» ومع «التنويم المغناطيسي» لكنه، وبشكل واضح، يحطُّ من قيمة التجارب الصوفية كلّها، ويعدُّها «رتيبةً بشكل مضجر؛ فالصوفيون في كل الأزمنة والأمكنة قد خطوا الخطوات ذاتها، وقالوا، في الواقع، الأشياء ذاتها»… بل يزيد في الإساءة إلى التراث الصوفي العريق «سواء الهندي أو الصيني أو الإسكندريّ أو العربي أو الجرماني أو الإسباني»، فـ «لئِنْ لاحظَ كلُّ من درس التصوف كثرةَ المفردات الجنسية فيه، لم يلاحظوا الواقعة المملة التي تضفي على التصوف خطورته الحقيقية»، إذ إن «الواقعة المملة الخطيرة» في رأي غاسّيت هي أن الصوفيَّ «صاحبَ الجذب مجنونٌ، إذ ينقصه الاعتدال والوضوح الذهني، وهو يضفي على علاقته بالله طابعَ قصفٍ يثير نفور صفاء رجال الدين الحقيقي»!، ويقصِدُ بـ«رجال الدين الحقيقي» «اللاهوتيينَ الكاثوليك»، ثم يغرق في مديح ما يعده مستحقِّاً للعناء لثراء أفكاره أكثر من «طرق القصف التحتيّة الصوفية» تلك.. فـ«اللاهوت ينقل إلينا كميةً أكبر من الألوهة ولمحاتٍ ومعاني أكثر من مواجد الصوفيين كلها معاً»!.
يا إلهي كيف لباحث وفيلسوف أن يقول ذلك؟! وأن يطلق تعميمه على «كل التجارب الصوفية»، وأن يستمر في مناقضة نفسه باعتباره «باحثاً عن الحقيقة، ويقول ذلك من مبدأ صدق»؟!
التناقض عند غاسّيت يتواتر ليس من باب جمع المتناقضات للوصول إلى نتيجة أو خلاصة مختلفة، فهو يؤسس «نظريته» أو أقواله التي يشدد عليها مرة تلو الأخرى على الفكرة الجميلة الآتية: «الحب ليس طلقة، وإنما هو فيضٌ مستمرٌ وإشعاعٌ نفسي يذهب من المحب إلى المحبوب، هو ليس دفقة واحدة، وإنما تيّار». ثم يقول في غير صفحات: «إنّ نفَسَ العاشق تفوح برائحة حجرة مريض مطبقة، ذات هواءٍ حبيس تغذّيه الرئات ذاتها التي تتنفسه»، فكيف يكون الحب تياراً مستمراً، وفي الوقت نفسه هواءً حبيساً في رئة العاشق يفوحُ بالنتانة؟!، ربما كنّا تساهلنا في حكمنا على الكاتب لو عد ما قاله من باب التأملات فقط، وليس توكيدات لنظريته أو «دراسته في الحب»!
الكتاب، رغم كل ما ذكرت، قيّم وفيه ما يتجاوز زمن كتابته لأنه أيضاً يتناول بالنقد فكرة «البلْوَرة في الحب» عند الفرنسي ستاندال والتي يصفها هذا الأخير مجازاً بغصن شجيرة متروك في العراء ثم نلتقطه في اليوم التالي، وقد تغطى ببلورات ملونة توشّي مظهره على شكل عجيب..وهذا ما يفعله الحب في نفس المحب حين «تسقط صورةُ المرأة المحبوبة داخل النفس الذكرية وتأخذ شيئاً فشيئاً توشّى بمركباتٍ خيالية تُراكِمُ فوق الصورة المجردة كلَّ كمالٍ ممكن»!
ورغم كل ما يحتويه الكتاب من مغالطات يمكن للقارئ غير المتخصص أن يلتقطها ورغم أن المترجم كما ذكَر «غيّر في ترتيب فصول الكتاب التي رتبها المؤلف حسب تسلسل صدورها الزمني، (وارتأى) أن يرتبها حسب تسلسل الموضوع».. وهذا ما جعل آخر فصل يبدو كما لو أنه نافلٌ بما يحتويه من «حل اللغز» الذي قرأناه في الفصل السابق، وبدا أنه من أفكار غاسيت لولا أننا نفهم أن «حلّ لغز الأنثى» هو من أفكار أحد القراء المشغوفين بمقالات أورتيغا غاسيت!… نقول رغم كل ذلك، يبقى هذا الكتاب محاولة مميزة في فهم مجاهل النفس البشرية… والحب؛ هذه «القارّة المجهولة» إلى الآن!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار