هل ينجح التداخل المعماري في إقامة طابق فوق طابق إذا تفاوتت الأزمنة والمواد والرؤية الهندسية الجمالية؟ أحسب أن لا، لأن البناء يُمزَج بروحٍ عبر الزمان، يصعب إنتاجُها بأدقِّ الأصابع براعةً وحذقاً! أسيرةً لهذه التداعيات كنت أفتح الصفحة الأولى من قصة لكاتب معاصر يزورغرفة «راسكولينكوف» قاتل المُرابية العجوز في رواية«الجريمة والعقاب» الأكثرِ شهرة في الأدب الإنساني! ومن يجرؤ على اقتحام تلك الصومعة المنيعة التي شغلت النقاد والدارسين وكتاب السيناريو؟ كنت أسأل نفسي وأنا على العتبة الأولى التي تخطاها «نديم غورسيل» في المبنى العتيق ليلتقي الشخصية التي رافقته في سجنه، بحذر، لكنه كان قد أسرني بحكايته الشخصية والعزلة التي طلبها بعد عودته من «المنفى» إذ لم أستطع استيضاحه: أكان في السجن أم المنفى؟ لأنه ترك وراءه إلحاح أمه على خروجه من الغرفة الخلفية المعزولة في استانبول ودعوتَها للأصدقاء كي يكونوا بجواره، كما قطع آلاف الكيلومترات ليتحسس السرير الذي نام عليه «راسكولينكوف» في غرفةٍ اصفرّت أوراق جدرانها، تحت سقف وطيء يشبه الزنزانة، وهنا تتزامن كلُّ الأحداث مع المشاعر التي تنتجها: «راسكولينكوف» في سيبيريا مع عتاة المجرمين، و«نديم» مع الموقوفين الهمجيين في سلوكهم، المزيد من المعاناة في توصيف «الجريمة» بعد أن باحت في عمق أطيافها بشخصية «نابليون بونابرت» القاتل المتسلسل الذي هُزم أمام ثلوج روسيا العاتية، لكنه تزين بعشرات الأوسمة الثمينة ومُجّد كأبرز أبطال التاريخ، هنا كان الحَفْرُ الأدبي يتواصل وتغيب منه شخصيةُ المرابية العجوز التي أدين بقتلها الطالب الشاب، وتمتلئ الغرفة الضيقة بأنفاس ثقيلة تتجمّع فيها الأزمنة المتباعدة التي يذكّر بها الكاتب حين يستعيد اسم مدينة «بطرسبورغ» بينما هو حجز في فندق مريح في «لينينغراد»، ويستعيد مع التسمية شواطئ نهر «نييفا» ببيوتها البائسة التي كانت تعج بمومسات مصدورات وسكارى متعبين وعجائز ينشرن الغسيل في المداخل المعتمة وطلبة يبحثون عن غرف للإيجار، ولا يستفيق من زيارته الطويلة، بعد أن أغلق مزلاج الباب واستفاض في الحديث مع صاحب الغرفة ليُشفى من قروحه النفسية، إلا حين يتذكر أنه في زيارة متحف ، أما الغرفة فقد بُنيت كما وصفها كاتب الرواية «ديستويفسكي»!
حين يأتي روائيٌّ إلى رواية لم يكتبها ليعيد كتابتها، هو إتيان يختلف جداً عن تداخل الناقد في أي رواية! الروائي هنا «يمرض» من التأثر، لذلك يحاول الاستشفاء، وقد يستعصي الاستشفاء بمجرد التأثر والصمت والتأمُّل، لأن الأعراض تكون حادة ولا تزول إلا بالنزول في ذلك العالم الحار للعمل الأدبي العظيم!
مررت بهذه التجربة الفريدة مرتين: مع «الجريمة والعقاب» ومع «محي الدين بن عربي» حين التقاه الشاعر «عصام محفوظ» ولكل تجربة نكهة مشبعة بالمتعة في عالم لا يمكن أن تنتهي فيه المسرات المتفرّدة!
نهلة سوسو
123 المشاركات