تظاهرة السينما الأنثروبولوجية في نادي سينما آفاق.. توثيق الذاكرة الإنسانية
تشرين- بديع صنيج:
كان المخرج الفرنسي الشهير جان لوك غودار قد تساءل مرّة: هل يوجد تعريف للسينمائي أكثر جمالاً من «باحث في علم الإنسان»؟
نعرف أن علم الإنسان/الأنثروبولوجيا يدرس حياة البشر المعاصرين، أفراداً وجماعاتٍ، طبيعياً واجتماعياً وحضارياً، أي يهتمّ بأعمالهم وسلوكهم، عاداتهم ومعتقداتهم، فنونهم وثقافاتهم ولغاتهم.
وقد كانت السينما أداةً فعّالة في إثراء معارفنا في هذا المجال عبر الأفلام الوثائقية/ التسجيلية التي وثّقت الذاكرة الإنسانية وصوّرت الخصوصية الثقافية والاجتماعية للمجتمعات البشرية ضمن محيطها الجغرافي. فأحد تعريفات السينما عموماً، والوثائقية منها خصوصاً، أنها «التجسيد الفنّي للواقع» وفق المخرج الإسكوتلندي جون جريرسون.
وفق هذا التصور بدأ نادي آفاق السينمائي في جرمانا «تظاهرة السينما الأنثروبولوجية» التي تأتي فرصة سنتعرّف من خلالها على مجتمعات بشرية عدة، في مناطق مختلفة من كوكب الأرض، كالقطب الشمالي، سهوب كازاخستان، جبال مقدونيا الشمالية، مدن كييف وأوديسا وخاركيف الأوكرانية، مرتفعات وصحارى بوليفيا، مدينة طوكيو اليابانية، قرية لاس أوردس شمال إسبانيا، وصولاً إلى أراضي أوشفيتز ومايدانيك في بولندا، وعبر أزمنة تتراوح بين عشرينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحالي.
وتتضمن التظاهرة تُحَفاً خالدة في تاريخ السينما لمخرجين أعلام، مثل: الأميركي روبيرت فلاهيرتي، السوفييتي دزيغا فيرتوف، الياباني ياسوجيرو أوزو، الإسباني لويس بونويل، والفرنسي آلان رينيه، وصولاً إلى أعمال حديثة مهمّة لمخرجين من: مقدونيا (ليوبومير ستيفانوف، تامارا كوتيفيسكا)، بوليفيا (أليخاندرو لوايزا غريسي)، كازاخستان (سيرجي دفورتسيفوي)، وبولونيا (جيرزي سكوليموفيسكي).
من أفلام «تظاهرة السينما الأنثروبولوجية» شاهدنا فيلم «أرض العسل» الذي يدور حول «تربية النحل البرّي»، وفيه تعرفنا على واحدة من المهن التقليدية القديمة التي انقرضت من معظم أنحاء العالم.
شاهدنا «خديجة» من السكّان الأصليين في جبال مقدونيا، وكيف تعيش، مع والدتها المسنّة العاجزة، في قرية مهجورة. وكيف تتعامل مع «نحلاتها» كأبناءٍ لها، تعتني بهم، تطعمهم، تغنّي لهم، وتتقاسم معهم نصف المحصول، ثم نشاهد كيف تنقلب حياتها رأساً على عقب مع قدوم رعاة رُحّلٍ، يتسبّبون، بدافع الجشع للربح السريع، بتخريب بيئة خديجة وموت معظم نحلاتها!
يبرز فيلم «أرض العسل» فكرة ارتباط جميع الكائنات الحيّة في هذا العالم، فنحن البشر مرتبطون بالحيوانات وبالنباتات وبالطبيعة حولنا.
كما يوصل رسالة قويّة بضرورة حماية البيئة والحفاظ عليها. ولعلّ خديجة، المرأة التي نرافقها ثلاث سنوات خلال الفيلم، تمثّل أنموذجاً للشخص الذي يحتاجه هذا العالم، الشخص الذي يختار فعل الأمر الصحيح مهما ساءت ظروف الحياة.
نافس الفيلم على جائزتي «أفضل وثائقي» و«أفضل فيلم دولي» ضمن جوائز الأوسكار للعام 2020. وفاز بثلاث جوائز من مهرجان صاندانس للعام 2019: أفضل فيلم وثائقي، أفضل تصوير سينمائي، وجائزة النقّاد الكبرى. وهو من إخراج: ليوبومير ستيفانوف، تامارا كوتيفيسكا. وبطولة: خديجة موراتوفا، نظيف موراتوفا، حسين سام.
أما ثاني أفلام التظاهرة فكان فيلم «نانوك ابن الشمال» الذي أنجزه المخرج الأميركي روبيرت فلاهيرتي قبل أكثر من مئة عام، وما زال حتى اليوم يعدّ علامة فارقة في تاريخ السينما عموماً، والوثائقية منها خصوصاً.
يصوّر الفيلم صراع سكّان المناطق المتجمّدة مع الطبيعة القاسية في الدائرة القطبية الشمالية، من خلال متابعة، مدة سنة كاملة، لحياة رجل يدعى «نانوك» (الدب) وعائلته وجماعته الصغيرة «الإيتيفيمويت» الذين يعيشون في شبه جزيرة أونغافا، شمال كندا. نرافق هذه الجماعة الصغيرة التي بالكاد وصلتها منجزات الصناعة الحديثة، خلال رحلات صيدها للحيوانات والأسماك، ومقايضاتها التجارية الصغيرة، وهجرتها وتنقّلها في الأراضي الموحشة الجرداء والغامضة، المفروشة بالثلوج والصخور والمسفوعة بالرياح المتربّعة على قمّة العالم.
الفيلم هو «قصة عن الحياة والحب في الشمال المتجمّد الحقيقي». وقد خلّد بطله «نانوك» الذي مات جوعاً في إحدى مغامرات صيده، في السنة ذاتها التي بدأ فيها عرض الفيلم في أنحاء العالم، ليكتب فلاهيرتي: «كان عدد الناس الذين شاهدوا الفيلم وتعرّفوا على نانوك، هذا الأسكيمو المقدام والبسيط، أكثر من عدد الحجارة على شطآن موطن نانوك».