تعدّدت مصادر الثقافة.. والجهل مستمر!
تشرين- هدى قدور:
رغم كثرة مصادر المعلومات اليوم بسبب التقدم التكنولوجي، إلّا أن الجهل وطّد أركانه بشكل أكبر من ذي قبل، حيث يمكننا الحصول على المعلومة السريعة عبر ضغط زر واحدة، لكن قراءة بحث معمّق وموضوعي تحتاج إلى جمهور من نوع خاص، مثلما يحتاج إلى كتّاب أصبحوا نادرين جداً في هذه المرحلة. إنها ثقافات الوجبات السريعة والميل إلى الإغراق في الاختصاصات التي تتضامن مع الجهل، بدعوى أن الإنسان ليس بحاجة لمعرفة كل التفاصيل حول كل الأشياء، بل يلزمه بعض المعلومات التي تحافظ على عمله مستمراً.
لكن هذه التبريرات تصطدم بحقيقة تقول إن استمرار الأعمال المنتجة لابدّ أن ينطلق من أرضية ثقافية خصبة وقوية، فكيف يمكن للمرء أن يعطي بينما لا يملك؟ وكيف يمكن أن يعلّم بينما هو جاهل؟ صحيح أن بعض الفنون تحتاج إلى الموهبة بشكل أساسي، لكن تجارب الشعراء والروائيين وغيرهم، تثبت أن الموهبة لا تلبث أن تصبح عاجزة عن الرفد خاصة إذا توقف صاحبها عن إروائها بالثقافات والمشاهدات والاختبارات الكثيرة التي تحتاجها حتى تصبح محترفة وحاذقة ومؤثرة.
تراجع مستوى القراءة على صعيد العالم كله بعد دخول التقدم التكنولوجي عصره الذهبي، ويتوقع أن يدمر الذكاء الصناعي آخر حصون الثقافة ويقضي بشكل نهائي على عادة القراءة ويغير أساليب التعليم والتعلّم.. فما هي الحال المتوقعة خلال السنوات القادمة؟ خاصة أن احتمال اعتزال الكثيرين من وظائفهم وارد جداً بدءاً من الأطباء إلى الفنانين التشكيليين والشعراء ومختلف المهن الإبداعية الأخرى؟
يقول الشباب اليوم: إنّ وجود المكتبة في المنزل بات أمراً تقليدياً يحافظ عليه البعض من باب الاستعراض وتكملة ديكور المنزل، فالمعلومات جميعها متوفرة على الشبكة، وأيضاً الكتب بصيغتها الإلكترونية، لكنهم لا يتطرقون إلى حقيقة أن هذه المعلومات تحتاج إلى تدقيق كبير، وحتى الكتب المنسوبة إلى أشهر المؤلفين، تتطلب تدقيقاً عميقاً نتيجة احتمال تعرضها للقرصنة والتحريف السهل عبر برامج الكمبيوتر، والجميع يشهد نسبة العديد من النصوص إلى غير أصحابها كما يجعل كتّاباً شهيرين يتحدثون بأشياء لم يتفوهوا بها.
بكل بساطة، نحن في عصر الفوضى المعلوماتية، وإنّ سهولة تداول المعلومات، تعني تسويق نوع أشد خطراً من الجهل التقليدي المعروف. وربما يحنّ الجميع في فترات لاحقة إلى أيام الكتابة على لحاء الأشجار وجلود الحيوانات، لأنها كانت تتطلب مؤلفين مغرمين بالكتابة والبحث والتمحيص، ولأن الكلمة كانت مسؤولية على صاحبها، على عكس ما هو اليوم من تجرؤ على التأليف والبحث العلمي واللجوء إلى «الويكبيديات» العالمية التي تقدم للناس كل شيء بينما هم جالسون على الأرائك في منازلهم متمتعين بنعمة النت. هذه المسائل متشعبة وتحتاج إلى بحث دقيق ليتم فرز الجيد من الرديء وتحديد إمكانية الاستفادة من التطور في هذا المكان، وضرورة فلترته في مكان آخر. فالجهل لن يكون آخر ما تتعرض له البشرية في الفترات القادمة، بل ستضاف إليه العزلة والعزوف عن المجتمعات والتفرغ لتلاشي الذات في بحر الرموز التي تبتلع كل شيء !