مليون سوري في مواجهة ممارسات لا إنسانية لم يرها العالم.. محطة عللوك سلاح بغيض في حرب التعطيش التي يمارسها التركي
تشرين – خليل اقطيني:
أرادتها سورية مصدراً للحياة، واستخدمها المحتل سلاحاً للموت، إنها محطة مياه عللوك التي كانت أولى المنشآت الحيوية التي استهدفتها قوات الاحتلال التركي ومرتزقتها، منذ احتلالها منطقة رأس العين شمال غرب الحسكة، في التاسع من تشرين الأول 2019 إدراكاً لأهميتها لسكان المنطقة من جهة، ومن أجل استخدامها ورقة ضغط من جهة ثانية، من خلال استخدام «حرب التعطيش» ضد السكان المدنيين، خلافاً للقانون الدولي والإنساني وشرعة حقوق الإنسان.
ومنذ ذلك التاريخ قامت قوات الاحتلال التركي ومرتزقتها بقطع مياه الشرب من محطة مياه عللوك 35 مرة، عن السكان المستهدفين، البالغ عددهم مليون إنسان في مدينة الحسكة وضواحيها وبلدة تل تمر وقراها.
ورغم أن أول مرة تم قطع المياه من المحطة كانت طويلة تجاوزت شهراً ونصف الشهر، فإن آخر مرة – ونتمنى حقاً أن تكون كذلك – امتدت إلى 6 أشهر من تشرين الثاني 2022 إلى نيسان 2023.
فما هي حكاية هذه المحطة التي تحولت إلى «أسطورة» تلهج بها وسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم، ومتى أنشئت، وما الأسباب التي دفعت إلى إنشائها، ولماذا تم اختيار هذا المكان تحديداً – قرية عللوك الواقعة في ريف منطقة رأس العين المحتلة في ريف الحسكة الشمالي الغربي – من دون غيره من أنحاء محافظة الحسكة المترامية الأطراف؟.
موت نهر
منذ القديم حظي نهر الخابور باهتمام كبير من المؤرخين والجغرافيين من كل أصقاع العالم، ربما بسبب العدد الكبير من العيون والينابيع التي يتشكّل منها، والذي يصل حسب كتب التاريخ والجغرافيا إلى 365 عيناً ونبعاً – بعدد أيام السنة – كلّها صافية كعين الديك، يظهر قعرها واضحاً للعيان مهما كان عمقها سحيقاً، ولهذا يعد نهر الخابور نهراً وطنياً بامتياز في سورية، فهو ينبع ويصب داخل أراضيها، من منطقة رأس العين شمال غرب الحسكة الى نهر الفرات عند منطقة البصيرة في محافظة دير الزور، قاطعاً مسافة 440 كم.
بعد جفاف الخابور توجيهات بتنفيذ مشروع مائي لسكان الحسكة وتأمين التمويل اللازم له
وبعيداً عن الاستعراض التاريخي والجغرافي لهذا النهر، يخبرنا مدير الموارد المائية في الحسكة المهندس عبد العزيز أمين أن نهر الخابور كان غزيراً، يصل تصريفه الوسطي إلى 45 م3/ ثا، ولهذا نـُفـِّـذَ عليه مشروع إروائي ضخم هو «مشروع ري حوض الخابور الكبير» المكوّن من 3 سدود كبيرة ومجموعة من قنوات الري، تهدف إلى ري مساحة 150 ألف هكتار بتكثيف عالٍ 200%، إلّا أن الاستخدام الجائر لمياهه، والحفر المفرط للآبار الارتوازية العميقة، على جانبي الحدود السورية – التركية، أدى إلى انخفاض منسوب الخابور، ومن خلال قراءة تصريف مجموع الينابيع المغذية للنهر، يظهر أن الانخفاض بدأ في مطلع الثمانينيات، وأخذ هذا الانخفاض يتزايد بوتائر سريعة منذ مطلع التسعينيات، حتى وصل التصريف السنوي الوسطي في عام 1998/1999 إلى 9.82 م3/ ثا وإلى 5.93 م3/ثا عام 1999/2000. واستمر الانخفاض في التصاريف حتى انعدم الجريان الحرّ من الينابيع كلياً، وتوقف نهر الخابور عن الجريان في 13 نيسان 2001، وما زال متوقفاً حتى الآن.
من تحت الدلف إلى تحت المزراب
ولسد النقص الحاصل بالمياه لإرواء المشروعات الحكومية والخاصة في حوض الخابور، يُبيّن أمين أن مديرية الموارد المائية قامت بحفر 116 بئراً على نهر الخابور ورافده الجرجب في منطقة رأس العين، وضخ المياه منها كإجراء إسعافي للمشروعات الحكومية وسرير النهر، إلّا أن هذا الحل انعكس سلباً على واقع المياه الجوفية التي تعاني من انخفاض مستمر من 1 إلى 3 أمتار في السنة، مؤكداً أن هذا الواقع المائي السيئ انعكس سلباً على الزراعة والمجموعات السكانية التي تعتمد في رَيّها وشربها على مياه نهر الخابور وينابيعه، ولم تتمكن الجهات المعنية من تأمين مصدر مائي دائم لري الحقول الزراعية وتأمين مياه الشرب للسكان، بسبب انخفاض الغزارات لينابيع رأس العين وانعدامها، الأمر الذي أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي بشكل كبير، هذا الإنتاج الذي يعد حجر الزاوية في اقتصاد محافظة الحسكة بشكل خاص وسورية بشكل عام إلى جانب النفط.
الاحتلال التركي ومرتزقته قطعوا المياه عن سكان الحسكة وتل تمر 35 مرة
وقد نتج عن ذلك تراجع كبير بمعدلات التنمية في المنطقة على مختلف الصعد، ترافق مع ارتفاع حاد بمعدلات البطالة والفقر، وازدياد الهجرة إلى العاصمة والمحافظات الداخلية طلباً للعيش.
من النهر إلى السد
ويتابع أمين: ونتيجة لانقطاع المصدر المائي المغذي لسكان المنطقة بمياه الشرب وهو نهر الخابور، تم تركيب 7 محطات ضخ على نهر الجرجب وضخ المياه إلى سدي الحسكة الشرقي والغربي عبر قناة الجر من الآبار ومحطات الضخ، لتأمين مياه الشرب لسكان الحسكة، واستمر ذلك حتى انخفاض منسوب البحيرة في عام 2012، فتم تركيب 5 محطات ضخ على بحيرة السد الغربي عند مدخل قناة الوصل وضخ المياه إلى السد الشرقي.
ورغم أنه كان من المقرر ــ حسب الدراسات الفنية ــ أن تلبي محطة «الحَمّة» لتصفية وضخ مياه الشرب من سد الحسكة الشرقي حاجة سكان المنطقة المستهدفة حتى عام 2030، ولاسيما أن المحطة أُنشِئَت بغزارة 172 ألف م3/ بهدف تأمين مياه الشرب وزيادة حصة الفرد اليومية من هذه المياه لسكان مدينة الحسكة والتجمعات السكانية المحيطة بها، البالغ عددها أكثر من 60 تجمعاً، فإن ملامح أزمة في مياه الشرب في مدينة الحسكة بدأت بالظهور بعد 3 سنوات فقط من بدء استثمار المحطة في عام 2005، وذلك من خلال تناقص كمية المياه المخزنة في السد عاماً إثر آخر، ناهيك بتغير المواصفات الفيزيائية والكيميائية لهذه المياه نحو الأسوأ، بسبب تغير مواصفات الطبقات الحاملة لهذه المياه، ما أفقدها صلاحيتها للشرب.
توجيه ومتابعة
ويؤكد مدير الموارد المائية أن توجيهاً رفيع المستوى تمّ للمؤسسات المختصة للإسراع بتأمين مصدر مائي بديل لسكان مدينة الحسكة، فاستقر الرأي على حفر مجموعة من الآبار في منطقة الأمل الأولى في حوض رأس العين، وذلك لوفرة المياه وتجددها في هذا الحوض المائي الغزير والثابت، ولما تتمتع به تلك المياه من مواصفات فيزيائية وكيميائية جيدة، ثم يتم جرّها عن طريق قساطل إلى محطة تصفية الحَمّة.
ويقول المهندس محمود العكلة المدير العام لمؤسسة المياه في الحسكة: إنّ المشروع يسمى «مشروع إرواء مدينة الحسكة وتل تمر والقرى المحيطة من حوض رأس العين»، وبلغت تكلفة تنفيذه 3 مليارات و100 مليون ليرة، وقد كان من المقرر إنجازه مطلع صيف 2012، لكن معوقات عديدة ظهرت وعرقلت تنفيذ المشروع وأخّرت إنجازه إلى عام 2013، من هذه المعوقات تأخر تصديق بعض العقود في العاصمة دمشق لدى بعض الجهات الوصائية، وهذا يعني أنه كان على سكان مدينة الحسكة ربط الأحزمة وتحمّل الوضع المتردي لمياه الشرب من حيث الكمية والنوعية حتى إنجاز المشروع الجديد بأي شكل كان، ما دفع السيد الرئيس بشار الأسد – الذي كان يتابع تنفيذ المشروع – للتدخل شخصياً، والتوجيه بتذليل كلّ الصعوبات، واتخاذ الإجراءات اللازمة لإنجاز المشروع خلال أسرع وقت ممكن، كما وجه بتأمين التمويل اللازم للمشروع، وهذا ما حصل.
*لماذا «عللوك»؟
ويوضح العكلة أن مشروع مياه عللوك سمي بهذا الاسم، لوقوعه قرب قرية عللوك في منطقة الأمل المائية الأولى في حوض الخابور، الكائنة في موقع عالية الشرقية على طريق رأس العين – الدرباسية بين نهري الجرجب الصغير والجرجب الكبير، في حوض رأس العين شمال غرب الحسكة، مبيناً أن المشروع يتكون من 34 بئراً بغزارة 200م3/سا وعمق 250م من الحامل المائي الثاني في منطقة رأس العين، يعد من المشروعات الرائدة والكبيرة في سورية، إذ تجاوزت تكلفته 3 مليارات ليرة، وهذه الآبار هي جزء من مشروع جر المياه من حوض رأس العين، إلى محطتي التصفية في الحسكة وتل تمر، بهدف تأمين مصدر مائي لمدينة الحسكة وضواحيها وبلدة تل تمر وقراها، حيث يقوم المشروع بتغذية سكان مدينة الحسكة والقرى المحيطة بها حتى بلدتي البحرة والهول على بعد 60 كم شرقاً، و30 كم شمالاً، و15كم غرباً، و20 كم جنوباً بمياه الشرب، ويمتد فرع منه إلى بلدة تل تمر وقراها حتى محطة «الرَقَبَة» التي تغذي 50 قرية مع البلدة، وهذا يعني أن مليون إنسان يستفيدون من هذا المشروع، الذي يتكوّن إضافة إلى الآبار من محطة تجميع وضخ في موقع الحَمّة قرب مدينة الحسكة، وقساطل بطول 70 كم من رأس العين إلى الحسكة.
التعديات من الاحتلال التركي ومرتزقته على المحطة ومكوناتها مازالت مستمرة.. ومحافظ الحسكة يطالب «يونيسيف» بوضع حدّ لها من أجل استمرار ضخ المياه
ويلفت العكلة إلى أن سكان الحسكة وتل تمر بقوا يتنعّمون بمياه الشرب من محطة عللوك ذات النوعية الجيدة، والتي تمتاز بالقساوة القليلة، ما يجعلها لا تحتاج إلى أي معالجات حتى لو كانت بسيطة، منذ البدء باستثمار وتشغيل محطة عللوك في 5 أيار 2013، حتى 9 تشرين الأول 2019 حين قام الاحتلال التركي ومرتزقته باجتياح الحدود في منطقتي رأس العين في محافظة الحسكة وتل أبيض في محافظة الرقة واحتلالهما، في عدوان سافر على الأراضي السورية، وأول ما قام به الاحتلال ومرتزقته كان استخدام كان «سلاح المياه» بهدف تعطيش السكان، فاحتلوا محطة عللوك وطردوا عمال مؤسسة المياه منها، واوقفوا الضخ قاطعين المياه عن مليون إنسان، في تحدٍ صارخ لشرعة حقوق الإنسان والعهود والمواثيق الدولية، واستمر قطع المياه آنذاك لشهر ونصف الشهر تقريباً.
وبعد ذلك بقي النظام التركي ومرتزقته يستخدمون ورقة مياه الشرب وسيلة للضغط على السكان، حيث تم قطع المياه 35 مرة من بدء الاحتلال التركي حتى الثاني والعشرين من نيسان الماضي، كما عمد الاحتلال ومرتزقته إلى تخريب ممنهج لمحطة مياه عللوك وسرقة محتوياتها، بما في ذلك أكبال الكهرباء.
المواجهة
*كيف واجهت الجهات المعنية العدوان التركي السافر على السكان باستخدام سلاح التعطيش؟.
**يجيب العكلة بأن الجهات المعنية في المحافظة عملت على عدة اتجاهات بشكل متوازٍ، لمواجهة أزمة مياه الشرب في الحسكة وتل تمر، فعلى صعيد الحلول الإسعافية تم حفر آبار سطحية داخل المدينة من قبل مجلس مدينة الحسكة بدعم من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، كما قام الأهالي بحفر العديد من هذه الآبار، ذات المياه الصالحة فقط للاستخدامات المنزلية، الأمر الذي خفف من الطلب على مياه الشرب، وبالتوازي قامت الجهات المعنية بالتعاون مع المجتمع الأهلي بتزويد السكان بمياه الشرب بواسطة الصهاريج.
أما على صعيد الحلول الاستراتيجية أنشأت الحكومة بتوجيه من السيد الرئيس عدة محطات لتحلية المياه في المدينة، كما تم وضع خزانات مياه مركزية في الأحياء والشوارع والساحات من قبل بعض المنظمات الدولية العاملة في المجال الإغاثي في المحافظة بالتعاون مع فرع الهلال الأحمر العربي السوري، وملء هذه الخزانات بالمياه الصالحة للشرب بشكل دوري، مرتين على الأقل في اليوم.
ويؤكد العكلة أن كل هذه الإجراءات ترافقت مع حملة إعلامية مكثفة، من أجل إيصال الحقيقة إلى الرأي العام العالمي من جهة، وحث المجتمع الدولي على وقف «حرب التعطيش» التي يشنّها الاحتلال التركي ومرتزقته على سكان المنطقة الأبرياء والعزل من جهة ثانية، وهذه جريمة حقيقية مكتملة الأركان يعاقب عليها القانون الدولي.
*سقف مرتفع للحوار
ومنذ عودة محطة مياه عللوك للعمل، في الثاني والعشرين من نيسان الماضي، بجهود بذلتها الجهات المعنية في المحافظة، بالتعاون مع منظمة «يونيسيف»، وبرعاية الجانب الروسي الصديق، لم ينتظم وصول مياه الشرب إلى الحسكة وتل تمر، بسبب استمرار التعديات على المحطة ومكوّناتها، ولاسيما خط الكهرباء المغذي لها من محطة تحويل كهرباء الدرباسية، وخط جر المياه إلى محطة تجميع الحَمّة، ما يؤدي إلى تأخر وصول مياه الشرب إلى السكان.
الأمر الذي اضطر محافظ الحسكة الدكتور لؤي محمد صيّوح إلى «رفع سقف الحوار» في اللقاء الذي جمعه مع نائب المدير التنفيذي لـ «يونيسيف» في سورية ميوه نيموتو ومسؤولة قسم التعليم في مكتب المنظمة في القامشلي عتاب خاجو، في الثاني من أيار الحالي.
فقد شدد صيّوح على ضرورة قيام «يونيسيف» بمنع التعديات الحاصلة من الاحتلال التركي ومرتزقته على خط الكهرباء المغذي للمحطة من محطة تحويل كهرباء الدرباسية، الأمر الذي يؤدي إلى توقف محطة عللوك عن ضخ المياه، وبالتالي قلة الوارد المائي إلى محطة تجميع الحَمّة وتأخر وصول مياه الشرب إلى السكان، ما يُفقِد تزويد المحطة بالكهرباء جدواه ويصبح بلا فائدة.
كما طالب صيّوح بدخول كوادر مؤسسة المياه إلى المحطة، لتشغيلها من جهة، وتفقد معداتها ومدى حاجة كل منها للصيانة والإصلاح من جهة ثانية.
من جهتهما وعد نيموتو وخاجو ببذل «يونيسيف» المزيد من الجهود لوقف التعديات على المحطة ومكوّناتها، والسماح لكوادر مؤسسة المياه بالدخول إليها، من أجل تحقيق استمرارية وصول مياه الشرب إلى سكان الحسكة وتل تمر بشكل متواتر، من خلال عدم توقف محطة مياه عللوك عن العمل وضخ المياه لأي سبب كان.
*الاحتلال إلى زوال
لكن مهما بذلت المنظمات الدولية من جهود، لا سبيل لوقف «حرب التعطيش» التي يشنّها الاحتلال التركي ومرتزقته على سكان المنطقة، وتعريض حياة مليون إنسان للخطر، في خطوة عدوانية منافية لكل القيم الأخلاقية والدينية ولشرعة حقوق الإنسان والعهود والمواثيق الدولية، إلّا بزوال هذا الاحتلال، والذي سيتحقق بفضل سواعد الجيش العربي السوري والقوى الحليفة والرديفة، بالتعاون مع المقاومة الشعبية من أبناء المنطقة، والتي انطلقت شرارتها منذ اللحظات الأولى للاحتلال.
aqtini58@gmail.com