في مئويّة عاصي الرحباني.. آخر القصائد والأقمار
تشرين- سامر الشغري:
المبدعون الراحلون هل نحتفل بذكرى وفاتهم أم بعيد ميلادهم؟، أم الأجدى أن نحتفل بهم في كل حين لأن إرثهم يعيش بيننا حياً لا يموت؟، الواقع أنني طرحت على نفسي هذا السؤال وأنا أواكب انشغال الوسط الفني والثقافي بما سمي (مئوية عاصي الرحباني).
لقد وجدت الإجابة عندما استرجعت حياة عاصي من ولادته في أنطلياس قرب بيروت يوم 4 أيار عام 1923، حتى وفاته في 21 حزيران من سنة 1986، بأن هذا الرجل كان واحداً من هؤلاء المبدعين القلة الذين كان إرثهم أقوى من ذاكرة البشر المتعبة والممتلئة، ومن تتالي الأحداث والحروب والأزمات، فظلت روحه تعيش في الأجواء إلى الأبد كما كتب ذلك مرة الناقد الفرنسي إدغار دافيديان.
كنت في التاسعة من العمر عندما قطع التلفزيون العربي السوري برامجه ليعلن رحيل عاصي الرحباني، ورغم أني كنت صغيراً يومها لكن الحزن الذي طبع برامج التلفزيون جعلني أشعر أن فاجعة حصلت.
وحين كبرت وقرأت الكثير عن تجربة الرحابنة ورصيدهم المدهش، عرفت أن حِداد التلفزيون على موت عاصي كان بتوجيهات مباشرة من الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي كان يكنّ محبة عميقة للأخوين رحباني ولاسيما عاصي، فقدّم باسم الدولة السورية مبلغاً مالياً كبيراً سنة 1972 لدفع تكاليف علاج عاصي كما أكد ذلك شقيقه وشريك إبداعه الفنان الراحل منصور الرحباني في مقالة كتبها بمجلة العربي الكويتية عدد حزيران 1997.
ولأن قيمة المبدع لا يقدرها سوى نظيره في الإبداع، فلن نجد أجمل من الرثاء الذي كتبه له نزار قباني في مجموعته الشعرية /الكبريت في يدي ودويلاتكم من ورق/ وفيها قصيدة أخاذة تبكي هذا الراحل وتنبئنا بأن خسارتنا له لن تعوض أبداً:
«عاصي الرحباني هو آخر الجماليات في حياتنا..
هو آخر قصيدة، قبل أن ندخل في الأمية..
وآخر حبة قمح، قبل أن ندخل في زمن اليباس..
وآخر قمر، قبل أن تهاجمنا العتمة..
وآخر الطفولة.. قبل أن تسرق الحرب طفولتنا».
لقد ظل عاصي يعيش طفولته حتى وهو يلج عتبة الكهولة، فهذا الولد الذي كان يلهو عند الجداول ويطارد الحساسين ويستمع لحكايات الرعيان، كبر وأخذ معه تلك الذكريات وصبها في مسرح غنائي لم يعرف العالم له مثيلاً، وكان أكثر ما يخشاه أن يجعله التقدم في السن ينسى براءة الطفولة، كما في أغنية «يا دارة دوري دوري فينا»:
«تعا تا نتخبا
من درب الأعمار
وإذا هنن كبروا
نحنا بقينا زغار
وإن سألونا وين كنتو
وليش ما كبرتو إنتو
بنقلن نسينا»
وعن سمات الإبداع عند عاصي تحدث شقيقه منصور بأنه كان من الرافضين فكرة ربط الإبداع بالوحي والإلهام، فكان يضع لافتة خلال بروفات مسرحياتهما كتب عليها: «الفن ابن الوعي وابن الصعوبة».
كتابة الشعر عند عاصي جعلته في رأي شقيقه منصور أكبر شاعر درامي في العصر، فهو لم يكن شاعراً غنائياً بل كان شاعراً درامياً مسرحياً، وشاءت الأقدار لهذا الشاعر والموسيقي أن يلتقي بفيروز ويحبا بعضهما ويتزوجا في 23 كانون الثاني سنة 1955، ويشكل معها ومع شقيقه مثلثاً ذهبياً لم يعرف له تاريخ الغناء مثيلاً.
ورغم أن عاصي ومنصور كانا يوقعان أغانيهما باسم الأخوين رحباني، فإن الدارس لأعمالهما يستطيع التمييز إلى حد ما بين ما كتبه كل واحد، انطلاقاً من شهادات أصدقاء وزملاء عاصروهما، فعاصي كان مشغوفاً بالكلمة البسيطة الواضحة كما تقول الدكتورة حنان قصاب حسن التي كان والدها الأديب والمحامي الراحل نجاة قصاب حسن صديق الشقيقين الرحبانيين، وكانت تلاحظ عندما يتباريان بالزجل أن شعر عاصي أبسط وأوضح في حين أنه عند منصور معقد ويحمل صوراً مركبة.. وقريباً من ذلك قدم الشاعر والإعلامي اللبناني عبد الغني طليس صديق الرحابنة، شهادة مفادها أن عاصي آمن بنظرية بأن الأغنية لا تحتمل شعراً كثيراً، ويجب أن تكون سهلة ممتنعة فالسهولة تقربها الى الجمهور، والامتناع يجعلها تتوالد في نفوسهم، كما كان منطلقه الأول الفنون الشعبية والتراث، ثم أفشى سراً خطيراً بأن عاصي هو كاتب أغنيتي «سوا ربينا» و«يا رايح ع كفرحالا».
حياة عاصي الفنية تنقسم إلى قسمين الأول وهو الأحلى ويمتد بين عامي 1950 إلى عام 1972، وفيه قدم مع أخيه مسرحيات مثل: «بياع الخواتم، جبال الصوان، وجسر القمر، هالة والملك، ناطورة المفاتيح، صح النوم» فضلاً عن أفلام «بياع الخواتم وبنت الحارس وسفربرلك»، وعدداً هائلاً من الاسكتشات، وفي هذه جميعاً نلاحظ ميلاً واضحاً للحكاية المتخيلة عن الضيعة وممالك افتراضية، واعتماداً على التراث الغنائي في بلاد الشام، مع حضور قليل للتاريخ وشخوصه.. والقسم الثاني وهو الأقسى والأكثر حزناً ويشمل بقية حياة عاصي حتى رحيله سنة 1986، عندما أصيب بالجلطة الدماغية 26 أيلول 1972 لم يتوقع الكثيرون نجاته، لكن تحداهم وشفي وعاد للعمل ولكن ليس كما في السابق، إذ نسي القراءة والكتابة وكان يقول متحسراً عندما يشاهد كتاباته السابقة: «يا ضيعانو خطي شو كان حلو»، وأصبحت طباعه أكثر حدة ولسانه أشد فظاظة، كما يورد الباحث والكاتب الراحل جان ألكسان في كتابه «الرحابنة وفيروز».. في تلك المرحلة تغير نمط المسرح الرحباني من الحكاية الطفولية والأسطورية، الى الرمز والفلسفة والتاريخ مع مسرحيات: ميس الريم، ولولو وبترا التي كانت مسك ختام رحلة فيروز مع عاصي ومنصور قبل الانفصال عنهما.
وبعد غياب فيروز صنع عاصي ومنصور مسرحيتين فحسب هما: المؤامرة مستمرة والربيع السابع، وقدما برامج غنائية مثل ساعة وغنية، وهنا نجد في هذه الأغاني صدى للحزن على فراق فيروز مثل «شو بعدك ناطر» لملحم بركات و«سألت عني» لمحمد جمال.
وفي سنوات عاصي الأخيرة كان يردد عبارة «بدي روح لعند الكبير»، أما آخر كلماته فكانت «افتحلي افتحلي، دخيلك افتحلي، قتلني الصفير والبحر مالو صوت».
وفي اليوم الذي ووري جثمان عاصي الثرى في كنيسة مار الياس أنطلياس، انطلقت حناجر أعضاء فرقته القدامى من نجوم الغناء في لبنان ليؤدوا معاً وللمرة الأخيرة أغنية سوا ربينا:
«سوا ربينا
سوا مشينا
سوا قضينا ليالينا
معقولة الفراق يمحي أسامينا
ونحنا سوا سوا ربينا».