في نسخته السادسة.. مشروع «نوافذ» يَستهلّ ندواته بحكاية أمير البُزق
تشرين- لبنى شاكر:
استبقَ محمد عبد الكريم (1911 – 1989) رحيله وحيداً في غرفةٍ متواضعةٍ في دمشق، بعزلةٍ بدت في ظاهرها اختيارية طوال أكثر من عشرين عاماً، بَيد أن البحث في مشوار أمير البزق، يُشير في كثيرٍ من مآلاته إلى أن ابتعاد الرجل كان عزلاً أودى إلى رغبةٍ في الانكفاء، ولهذا يُحسب لمشروع نوافذ في نسخنه السادسة، هذا الاستهلال، باستحضار تجربةٍ استثنائيةٍ في مُختلف تفاصيلها، تستحق كشفاً جديداً، يتدارك ما اختفى وما أصبح قيد النسيان من إرث الموسيقي المُنوّع بين العزف والتلحين، وعلى ما يقوله صاحب المشروع الزميل إدريس مراد فالندوة التي أقيمت مؤخراً في المركز الثقافي في «أبو رمانة» فاتحة لعدة ندواتٍ في عوالم المسرح والموسيقا بعد أن تناولت النوافذ في أعوامها السابقة نقاشاتٍ تشكيلية وأدبية وتراثية.
الشاعر والزميل علي الراعي استعاد في مُشاركته البدايات الأولى للموسيقي الكبير، وعلى حد تعبيره «لا يُختصر محمد عبد الكريم بين سنتي ميلاده ووفاته، بل بما فاض بينهما ولايزال مستمراً بما منحته الحياة إنسانياً وإبداعياً؛ ذلك أن الموسيقا، هي من ستضيفُ إلى تلك العقود حياةً جمالية أخرى، تكون كنبتة جلجامش التي فشل الأخير في الاحتفاظ بها»، يُضيف أيضاً: «في وسط حمص، وفي شارعٍ شعبي يُطلق عليه (الخضر) سيولد لموسيقي كان يُعمّر أفراح المدينة بالعزف على آلتي العود والبزق يُدعى (علي مرعي)، طفلٌ سيكون صغير الحجم بشكلٍ لافت، ذلك الملمح الذي سيبقى معه حتى وفاته، ولاسيما بعد أن تعرّض خلال طفولته لحادثٍ أثّرَ في عموده الفقري، والذي أوقف نمو جسمه عند طولٍ لم يتجاوز الثمانية والتسعين سنتمتراً، ذلك الطفل سيولع بالبزق».
تنقّل عبد الكريم بين المدن والإذاعات، وتشعب إبداعه، لِتصنّف شواغله الإبداعية ضمن أربعة اتجاهات، والكلام للراعي: «”تمثّل الأول في ابتكاره مقاماً موسيقياً جديداً أطلق عليه اسم (مريوما)، والثاني بإجرائه تعديلاً على آلة البزق فزاد عدد حبساته على الزند من 17 حبسة إلى 38 حبسة، كما أضاف إليه وترين مزدوجين، ما زاد طاقة هذه الآلة، بينما تمثّل الاتجاه الثالث في التأليف الموسيقي، إذ أبدع السماعيات واللونغايات في مقاماتٍ موسيقيةٍ مختلفة، ووضع أيضاً مقطوعات موسيقية زاد عددها على عشرين مقطوعة، وتمثّل الاتجاه الرابع بألحانه لما يزيد عن مئة أغنية، ضاع جزءٌ كبيرٌ منها».
أما اللقب الذي طغى على اسمه، فهو كما يروي الراعي عائدٌ إلى لقاء جمعه بالملك فيصل بن الحسين، عندما استمع إلى عبد الكريم في حفلةٍ باريسية، ولشدّة إعجابه به أطلق عليه صفة (أمير البزق)، ثم أصدر «فرماناً» لتصير التسمية ملكيةً رسمياً، وبهذه الإمارة التي بقيت تسبق اسمه إلى اليوم، جاب محمد عبد الكريم مختلف عواصم العالم.
من جهته وصف الزميل سامر الشغري الراحل بالعبقرية الموسيقية العالمية، وقال لـ«تشرين»: أمير البزق كان عازفاً لا يُجارى، ومؤلفاً موسيقياً مبدعاً، وملحناً جميلاً، جمع هذه القدرات في إطارٍ تجديدي حمل بصمته الخاصة، ربما يعود ذلك إلى ما قاله الباحث سعد الله آغا القلعة يوماً بأن الإعاقة شكلت له تحدياً فكان يحاول دائماً إثبات مقدرته وتفوقه على الآخرين، فهو مثلاً لم يدرس الموسيقا، إنما تعلّم من العازفين الكبار، حتى إنه تعلّم التدوين الموسيقي في عمر متأخر (35 عاماً)، لكنه كان ذكياً وقادراً على التقاط المعلومة والبناء عليها، ويبدو أنه كان مولعاً بالمعارك الموسيقية أيضاً، فتحدى عبر إذاعة دمشق عازف القانون التركي اسماعيل شانشلر وغلبه، كما تحدى فرقةً موسيقيةً كاملة.
يشير الشغري إلى أن عبد الكريم أخرج آلة البزق من محيطها الضيق عندما عزف عليها مقطوعاتٍ غربية، وطوعها في أخرى مزج فيها بشكلٍ مدهش بين الشرقي والغربي، من هنا كانت أعماله تشي بعبقريةٍ نادرة، تشعر عند الاستماع إليها بأن أكثر من عازفٍ يؤدون معاً، حتى إنه أخرج من البزق نغمين متناقضين في الوقت نفسه، واستخدم تقنياتٍ لا يمكن لآخرين استخدامها منها، حبس الوتر، ومخالفته المقطوعات الموسيقية التي تبدأ عادةً هادئة ثم تتصاعد، وفي هذا السياق كانت ألحانه باهرة رغم قلتها، منها ما قدمه لـ (سعاد محمد، فايزة أحمد، ماري عكاوي)، من أهمها (رقة حسنك) التي غنتها نجاح سلام، مدتها 12 دقيقة، وتوجد فيها أربعة مقامات، من دون أن يشعر المستمع ببترٍ أو انقطاع.
وذهب الشغري إلى أن عبد الكريم ربما لم يجد الصدى المطلوب لما يقدمه، أو أنه شعر باستحقاقه ما هو أفضل كمبدعٍ مُتفرّد، فابتعد عن الساحة الفنية واعتكف في بيته، وفي الوقت نفسه ابتعد عن تقديم الأغنيات مكتفياً بالارتجاليات، ذات الجمهور النخبوي، بينما الجمهور العام معتادٌ على ترديد كلمات، وهذا كان سبباً مُساهماً في الانسحاب. عازف البزق بحري تركماني ترجمَ ما قيل إلى مقطوعاتٍ موسيقية، مُنتقياً نماذج من أعمال الراحل، كان أميناً فيها على الإبداع الأصل، بما يتوافق مع إضافة شيءٍ من خصوصيته وأدواته بعد خبرة 38 عاماً في العزف، يقول لـ «تشرين»: يَصعبُ على أي موسيقي مقارنة نفسه مع الإبهار الذي قدمه عبد الكريم، ما زلتُ حتى اليوم أكتشف المزيد في موسيقاه، وأجد فيها باستمرار ما يعنيني بشكلٍ خاص، أما البزق فهو آلةٌ مظلومةٌ محلياً لأنها باعتقاد عددٍ كبيرٍ من الناس (شعبيّة)، وهو ما يُروج له موسيقيون لم يتمكنوا من إتقان العزف عليها فحاولوا التقليل من شأنها.