في اختصاص الصحافة الذي اختارتْه برغبة شديدة، وراحت تدخل بشغفٍ في كل شجونه، قالت في لحظة «هضمٍ» واستراحة: -أليس غريباً أن أهمّ صحفي، تتلقّف مقالاتِه الصحفُ الأخرى التي لا يكتب فيها «عمودَه» الأسبوعيّ أو مطوّلاته التحليلية ثم تتنافس عليه المحطات المسموعة والمرئية، ويحتفي بكتبه القراءُ والنقّاد، ثم يصبح بسبب براعته الصحفية شبهَ مؤرخ وشاهداً على العصر، لم يأتِ من اختصاص الصحافة بل درس في مقتبل حياته في معهد التجارة المتوسط؟
أفضى سؤال طالبة الإعلام إلى «حالات» أخرى لا تقلُّ أهمية عما ذكرت! فنان تشكيليّ رسم بالفطرة، من دون أن يتخطى عتبة كليات الفنون الجميلة أعظمَ اللوحات وشغل أجيالاً من الفنانين الذين أمضوا سنواتٍ يتعلمون طرائق مزج الألوان ونوعياتها وأسس الفيزياء البصرية وتشريح «الكتل» الحية والجامدة ويقومون بإجراء آلاف التجارب قبل أن يستوي الأسلوب المطلوب، ثم فنان آخر في التمثيل والتجسيد بات نجماً لا يُشقُّ له غبار زاحم فنانين درسوا في المعاهد والأكاديميات المتخصصة وصرفوا سنوات طويلة تحت يد أساتذة محترفين، بينما جاء هو إلى هذا الفن من اختصاصٍ آخر لا يمتُّ إليه بصلة! وهناك ما هو أكثر إثارة للانتباه: علوُّ هامة أدباء أتَوْا من اختصاص الطب، وهو اختصاص مفرطُ الحسيّة وأبعد ما يكون عن المجازات الأدبية واللغوية لكنهم تقدموا في «الأدب» إلى مواقع لم يصل إليها أحدٌ من الكتّاب الذين تمرسوا باللغات وانغمروا في ثقافات شعوبهم، وما لبثت التداعيات أن نزلت بي إلى الماضي وأمامي طفلٌ صغير عادت به أمه لتوها من عيادة طبيب، هو الأكثر شهرةً بين أطباء الأطفال في العاصمة، كانت بيدها الوصفة الدوائية والطفل شاحبٌ يئن ولا يقوى حتى على البكاء، نظرت إليه الضيفة الأمية المسنّة وشخّصت حالته على الفور، لتكتشف الأم بعد شهور مريرة من العلاج غير المجدي، أن تشخيص الضيفة هو السليم وتعالج الطفل بدواء آخر يشفيه ويعيد إليه عافيته!
في هذا الوجود، كما يبدو، حدسٌ إبداعيٌّ عمليٌّ خلاق، على طريقة الحدْس المعرفي، الذي عرّفه أرسطو وأفلاطون بأنه تصورٌ فوريّ للمبادئ، وتالياً تعبيرٌ عن معرفةٍ أكيدة، لأن الفكر يصل مباشرةً إلى محتوياته الحقيقية من دون استدلال! لكن هذه الموهبة ليست قاعدةً أدَّت في الماضي، وتؤدي حاضراً ومستقبلاً إلى ازدهار المعرفة والإبداع الجمعي، لأنها شديدة الخصوصية، نادرةُ الحدوث مثل الطفرات الإيجابية، التي تحدث من دون تنبؤ أو توقعات، أما أصحابها فينالون اهتماماً خاصاً بسبب هذه الميزة التي عُرفَت في الثقافة العربية، في أحد وجوهها، بالفراسة، والفراسة كانت أبداً محضَ حدسٍ خاص بالمعرفة، قد لا ينتقل إلى عملٍ إبداعيّ تام الخَلْق!
نهلة سوسو
123 المشاركات