حيدر حيدر
في الحديث عن عزلة الروائي حيدر حيدر (1936-2023)، الذي ووري ثرى سورية أمس؛ تخطر في البال عشرات (العزلات) التي اختارها الكثير من المبدعين في شرق هذا العالم ومغربه، شماله وجنوبه.. «عزلة» هي أقرب إلى الموقف الذي يتخذه المبدع، بعدما أن تكون «قشة» الخيبة، قد فعلت فعلها الأخير في إتمام كسر ظهره.. ومن نافل القول إنّ العزلة غير الوحدة، وشتّان ما بين الحالتين.
هنا يخطر في البال الكاتب الأمريكي ج.د.سالجنر صاحب رواية «الحارس في حقل الشوفان»، التي في رأي الكثير من النُقّاد تشكّل منعطفاً مهماً، بل تحولاً في مسار الكتابة الروائية الأمريكية، لأنها شكّلت الإرهاصات الأولى لما عُرف فيما بعد صدورها بكتابات الغاضبين، فقد عبّر جيل الرفض في أمريكا عن تبنيه هذه الرواية حين رفع شعار «كلنا هولدن كولفيلد»، وكولفيلد هذا هو بطل الرواية، بل هو الراوي الذي يسرد الأحداث التي تأتي كاعترافات نزقة من زيف المجتمع الأمريكي، نزق يصل حد الشتائم والسباب، يطلقها ولدٌ لا يتجاوز عمره الستة عشر عاماً، عندما يرى أن الزيف بدا له مستحكماً وشاملاً، ومن هنا تكون أمنيته الوحيدة هي الهروب من هذا الزيف، وبناء كوخٍ على أطراف غابةٍ بعيدة لا يزوره فيها أحد، والمدهش أن سالجنر نفسه – مؤلف الرواية- حقق هذا الحلم – الأمنية، عندما انتزع نفسه من المجتمع الأمريكي ليعيش في كوخٍ على أطراف الغابة، لا يريد أن يرى أحداً من البشر، وحتى زوجته التي كانت تكتفي بالاطمئنان عليه من خلال الهاتف.
وفي مقاربة ليست بعيدة عن صاحب (الحارس في حقل الشوفان)، تأتي عزلة صاحب الـ(وليمة لأعشاب البحر)، فحيدر حيدرالذي منذ أن اتضح وعيه السياسي والأيديولوجي والفكري انحاز إلى ناس القاع والمظلمومين، ووقف كفدائي مع الكثير من المنظمات الفلسطينية في جنوب لبنان ضد العدو الصهيوني، كما بقي يُحارب في الاتجاه ذاته بقلمه، وإن كان من فضاءات أخرى في قبرص وتونس والجزائر، وغيرها.. لكن بعد اتفاقيات منظمة التحرير وغيرها انكفأ إلى عزلةٍ سيختارها في بستان حمضياتٍ يُجاورُ البحر في (وطى حصين البحر – البصيرة) في ريف طرطوس، عزلة اختيارية، وهو يُشاهد بأم العين الرفاق «الحمر» ومن كلِّ الألوان ينتكسون إلى دوائر ضيقة دوّنَها في الكثير من رواياته ولاسيما (شموس العجر) ذات الصيت الذائع، هذه العزلة التي تذكرنا أيضاً بعزلة سعيد حورانية، ومحمد القصبجي وغيرهما الكثير، مع فارقٍ أن صاحب (حكايا النورس المهاجر)، لم يتوقف يوماً عن الكتابة.
وحيدر حيدر مبدعٌ من صفِّ مبدعين سوريين، شهدنا خلال الثلاث سنين الأخيرة تساقط أوراقهم الخضراء، إذ يرحلون تباعاً وفرادى، وقد فُجع الوسط الثقافي السوري بغير قامةٍ إبداعية، تشعرُ المُتابع وكأنّ ظهره أمسى مكشوفاً للخواء.. فمنذ مدة رحل قمر الزمان علوش، وتلاه عادل محمود، وغيرهما، ومؤخراً ناظم مهنا.. وإن كان الأخير من جيلٍ تال للسابقين..
هامش
………..
للصديق الشاعر أحمد نصرة:
لم يرحل دون أن
يدري ما المطر!
بكى غيمتين..
وانكسر.