من رحم الألم ولدت كلمات “المجد.. وكفى” و”يوم…ليس كباقي الأيام” نحن مَن نكتب سطور العمر وسأكتب تلك السطور في هذه الحرب
اللاذقية – حوار: باسمة إسماعيل:
وطن صغير في قلب وطن كبير، كفى كنعان أم الشهيد مجد رزوق، تختلف عن أمهات الشهداء الأخريات ليس بالمشاعر، لكن في قدرتها على صياغة تلك المشاعر الموحدة لدى جميع أمهات الشهداء بكتابيها “المجد .. وكفى” و “يوم … ليس كباقي الايام” لتبقي على ولدها “مجد” حياً وتنعشه من جديد، إيماناً بأن أرواح الشهداء لا تموت وإن غابوا بالأجساد.
نفحات روحية
في يوم عيد الشهيد كان ل ” تشرين” هذا اللقاء مع أم الشهيد مجد رزوق الكاتبة كفى كنعان المربية والناشطة في المجال الاجتماعي الخيري التطوعي، للحديث عن تلك النفحات الشعورية والروحية في كتابيها، والتي أرادت إهداء أرواح شهداء الوطن هذه الكلمات، وقد تحول كتابها الثاني لفيلم وثائقي.
الإبقاء على الرسالة
كفى كنعان لم يكن لديها هاجس بالكتابة ولا هدف لها، ولكن كما ذكرت لنا من رحم الألم تولدت كلمات هذين الكتابين، فمنذ بداية الأحداث شغلتنا فكرة الدفاع عن وجودنا نحن السوريين، في وجه تلك الحرب التي شنت لدثر حضارتنا التي فاقت السبعة آلاف عام.
وأضافت: أنا مستمرة في هذا المسار الذي قطعته على نفسي، في إبقاء الرسالة التي كنت بدأتها وبدأها ابني الشهيد، وكل الشهداء والجرحى والأبطال المرابطين في ساحات القتال وكل سوري يحب سوريته، الإبقاء على سوريتنا، وجاء تخليد هذه الرسالة بهذه الدماء والأرواح، وأنا وكل أمهات الشهداء والجرحى والمفقودين وكل سوري متمسك بانتمائه للوطن، تعالينا على الجراح، من هنا بدأت عندي فكرة الكتابة ليس فقط لأخلد مشاعري تجاه أغلى ما أملك بالكون ابني، بل لأخلد أيضاً قيمة الشهادة والشهيد واستمرارية عظمة الشهيد، والتأكيد لأمهات الشهداء أن ارتقاء أبنائهن شرف عظيم لهم ولهن، رغم آلام الفقد وعذاباته التي تنتاب كل أم بفقد روحها، إلا أن البلسم لتلك الآلام أن ولدها نال مرتبة لا تضاهيها مرتبة، وأنها أخذت مكانة عظيمة في الدنيا والآخرة أنها أم الشهيد.
روحي تعانق السماء
وتابعت: عندما يسألوني في أي مقابلة صحفية أو تلفزيونية أو في أي مكان أكون فيه بلقاء أو ارتقائية، ما اللقب الذي أُحب أن أُُنادى به؟ أقول ” أم الشهيد” وليس المربية أو الكاتبة أو المتطوعة ..إلخ شعور لا أستطيع وصفه لكن كل ما أستطيع قوله بصدق أحس أن روحي تعانق السماء، وأشعر أن ابني “مجد” موجود عندما أُنادى بأم الشهيد.
سطور العمر
وعند سؤالنا عن سر تلك التوليفة بين اسم ابنها واسمها، لتكون عنوان كتابها الأول ” المجد…وكفى”
أشارت إلى أن القدر اختار اسمه، كان لقب زوجي أبو أحمد وعندما رزقت بولدي الأول وقلت له أن نسميه “مجد” ولم يكن في بالي هذا الاسم ولم يعترض، فمنذ الثواني الأولى لولادته رأينا المجد في وجه ولم نكن ندري أنه سينال المجد من أوسع أبوابه، فأتى العنوان “المجد… وكفى” المجد هو الهدف والغاية ومنتهى الأمل والكفاية، وأنا كأي أم تخاف على أولادها، حاولت إقناعه أن الدفاع عن الوطن له عدة وجوه، منها رجال مدربون للجبهات، ورجال يحاربون بالفكر والقلم، لكنه أبى إلا أن يكون في ساحات القتال، ولأننا تربينا وربينا أولادنا على أن الوطن هو عرض وشرف الإنسان، وروح وجسد لا يكتمل عنصر من دون آخر، فنحن لا نستطيع أن نعيش في ازدواجية المعايير لذلك وافقت رغبته، وأقنعني أكثر عندما قال لي: العمر مكتوب ونحن مَن نكتب سطوره وأريد أن أكتب تلك السطور في هذه الحرب.
لا تختار إلا مَن يليق بها
القارئ لكتابك ” المجد …وكفى” يتلمس مشاعر الفخر والعزة والسعادة، ومشاعر الحزن المتغلغلة في طيات فصول كتابك الستة، وذكرتِ أن استشهاده كان منعطفاً حياتياً خارقاً في عمرك، كيف استطعت المزج بين هذين الشعورين؟
كل أم ترى سعادتها بأولادها لكن تختلف ترجمة تلك السعادة والمشاعر من أم لأخرى، ” مجد” أعطاني السعادة لمدة واحد وعشرين عاماً، ولشدة تعلقي به أصبح الناس يفتكرون أنه وحيد، لا لحب أحبه أكثر من أخويه (أحمد وميس)، ولكن كأن القدر كان يهيئني منذ ولادته لاستشهاده، كان قريباً لروحي حتى إنه كان يشبهني في فكري وطريقة تعامله مع الأمور، أعطاني سعادة ومجداً في حياته بتفوقه الدراسي ومحبته للناس ومحبتهم له، وحتى بعد استشهاده أعطاني مجداً وسعادة، ستقولون لي أين السعادة بفقد ولدك، أقول لكم إن السعادة بعودة ولدي لي مجداً كما سميته، لأننا كلنا موتى أما الشهيد لا يموت بل يرتقي ارتقاء، عاد لي عريساً ليس كما تمنيت أن أراه، ولكن عريساً بالبطولة وبالشهادة التي لا تختار إلا مَن يليق بها، فقد فازت به عروس أبية إنها سورية.
استقبلت أنا وزوجي وأولادي وعائلتي، المحبين والأصدقاء ورفاقه، بالقول لهم لا تعزونا بل باركوا لنا باستشهاده، الشهيد لا يموت، لذلك قلت إنه أعطاني مجداً حتى بعد استشهاده، لا أعلم من أين أتتني كل هذه القوة والصبر.
أراه في عيونهم
وأضافت كنعان: استشهاده كان نقطة تحول وانعطافة كبيرة في مجرى حياتي، كرست كل أوقاتي لمتابعة الرسالة التي ربيت ابني عليها، وقررت ألا أنزوي أو أنطوي، وأصبحت أم كل شهيد، أم كل المقاتلين والجرحى وطويت جرحي وحزني في قلبي ومسحت دمعتي، ورحت أتحسس جراح أولئك الأبطال في القرى البعيدة والقريبة، في الجبهات وفي المشافي وفي كل مكان، وأصبح حلمي أن أرى أولئك الجرحى معافين، وكفكفت دموع أيتام وأمهات وزوجات فاقدين مثلي، أنا أرى مجد في كل ارتقائية شهيد، وفي زيارة لجريح أذكره عندما أصيب، فمنذ أن التحق حتى استشهاده لم أره، فأنا أراه في عيون الجرحى وفي مراسيم تشييع الشهداء.
رحلة مؤلمة
بعدما تحقق حلمك وزرتي مكان دفن ولدك، وكتبتي هذا اليوم في كتابك ” يوم… ليس كباقي الأيام” وتحول لفيلم وثائقي سيعرض قريباً، ماذا أضاف لك هذا اليوم؟
بعد اعتقادي أني خلدت ” مجد” ورفاقه في كتابي الأول، أعطاني القدر فرصة تحقيقي حلمي، وبعد مسيرة جهد وعمل تجاوزت السبع سنوات تيسرت الأمور، وتمكنت من زيارة كلية المشاة لأتيمم بطهر التراب والمكان الذي ضم جثمان ولدي، فكان يوماً ليس كباقي الأيام تحقق فيه حلم ليس كباقي الأحلام، فهذه الرحلة القاسية والمؤلمة والمدعاة للفخر، يجب أن توثق فوثقتها في كتابي هذا، وهنا أتوجه بالشكر الجزيل لوزارة الثقافة التي تبنت هذا العمل وحولته إلى المؤسسة العامه للسينما، التي وجدت في رحلتي وكيف زرت البوابة التي ارتقى منها الشهيد ابني، وهو يدافع عنها ضد هجمات التكفيريين، وكيف أمضيت يوماً مع رفاقه وأعددت لهم الطعام، وعندما عرض عليّ مساعدتي في نقل رفات ابني إلى مسقط رأسه فرحت، ولكني عندما عرفت أن مئة وخمسة شهداء مدفونون إلى جانب ابني وحوله، آثرت أن يبقى مجد بصحبة رفاقه الذين استشهدوا معه.
نقطة انطلاق
ولفتت كنعان إلى أن وزارة الثقافة وجدت أن النص مؤثر، ويصلح لأن يكون نقطة انطلاق ومادة غنيه لصنع فيلم وثائقي مكرس لأمهات الشهداء، وتم تكليف المخرج عوض القدرو بإنجاز هذا العمل، الذي تواصل معي وتم الاتفاق فيما بيننا، بأن تكون شخصيات الفيلم شخصيات حقيقية، عاشت الأحداث لحظة بلحظة، وكم كانت سعادتي عارمة عندما أخبرني بأني ومجموعة أمهات سنزور أماكن الاستشهاد، ونتحدث عن أولادنا من قلب الحدث الذي استشهدوا فيه، تم تصوير الفيلم في حلب وشارفت خطوات العمل على الانتهاء وقريباً سيتم عرضه.
تأريخ اللحظة
وبينت أنها سعيدة فعندما بدأ الحلم يتحقق كُتب للشهيد ” مجد ” مجداً آخرى، أنه شفع لأمهات رفاقه الشهداء ألا تدمع عيونهن، لأن القدر أنصفني في نقل رفات ولدي ولم ينصفهن، وأخذت القرار بعدم نقل الرفات لأن الأرض التي روت بدمائهم هي الأجدر باحتضان جثامينهم، وسعيدة لأنني حققت رغبتي ووعدي ل ” مجد” بتأريخ اللحظة التي قابلته بها روحاً لروح، وإني سأقوم بدور أم الشهيد فلا أحد سيعطي هذا المشاعر مثلي أو أن يؤرخها كمن عاشها.