في (الزمن الموحش) يرحلُ الفهد ويتركُ خلفه مائدةً عامرة وشموساً غجرية

تشرين- راوية زاهر:

هكذا استفاقت طرطوس صباح اليوم، ومعها عُشّاق الرواية العربية على رحيل فهدها الروائي حيدر حيدر، الذي يصبُّ “كأساً للبحر..عالياً عالياً هذا النشيد يا معلم.”، على ما يكتب سامر إسماعيل.. فعن عمر يناهز ال(87) عاماً، يرحلُ أحد مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وكانت بداياته عبر مجلة الآداب اللبنانية التي نشرت له أول إصداراته بعنوان “حكايا النورس المهاجر” سنة 1968.. وفي سيرته الشخصية، فقد عمل الراحل في التدريس وشارك في (ثورة التعريب في الجزائر)، وفي بداية الحرب اللبنانية التحق بالمقاومة الفلسطينية من خلال اتّحاد الكتّأب الفلسطينيين في بيروت.. وفي أوائل الثمانينات غادر بيروت إلى قبرص ليعمل في مجلة الموقف العربي، مسؤولاً عن القسم الثقافي فيها.. وفي سنة 1984 صدرت له رواية “وليمة لأعشاب البحر” بطبعتها الأولى في قبرص، التي كان قد كتبها في الجزائر، وسيكون لها معاركها الطويلة مع الفكر الظلامي، ومن ثم عاد إلى سورية ليتفرغ للعمل الأدبي، منعزلاً في بستانه في (وطى حصين البحر، وبجوار البحر)، وكان من أشهر أعماله: رواية قصيرة بعنوان (الفهد) استوحاها من حكاية الثائر الشعبي (أبو علي شاهين)، والذي بدوره استوحى منها المخرج السينمائي نبيل المالح فيلمه الذائع الصيت بالاسم نفسه، والمفارقة أنّ “الفهد” أمسى لقباً لم يُفارق حيدر حيدر يوماً، ثم كان له: الومض، الزمن الموحش، مرايا النار، وشموس الغجر.. وقد ترجمت له الكثير من القصص إلى اللغات: الألمانية، الإنكليزية، الفرنسية، الإيطالية والنرويجية وغيرها، كما أنجزت في كتبه رسائل جامعية للدراسات العليا والماجستير في أكثر من بلد عربي.. حيدر حيدر الذي يكتب عنه قريبه الشاعر فراس أحمد نعياً موجعاً: ” صديقي أيها الفهد؛ أصابعك التي شدّت على أصابعي، أصابعك المتعبة الغارقة في الصمت، همست لي: لم تنكسر السروة.. السروة التي هوت غبَّ تلك العاصفة في غفلة القلب المضنى والجريح عبر ستين عاماً من التوهج واللهاث المحموم لاختراع الأمل.. لا النفي، لا الحرب، ولا الحصار استطاع أن يلوي تلك السروة، لا خفوت النار في القلب، ولا ضياع الطريق.. نمْ قليلاً دعْ قلبك الطاعن في الحزن يغفو، دع أصابعك التي لونت الكلمات بالضوء والرؤى..”.

فيما الفنانة التشكيلية غادة زغبور – وهي بالمناسبة زوجة ابنه الراحل وافد- فتودعه هي الأخرى على طريقتها، وعلى مقاسات حزنها: “في كلِّ مرة يأتيني تلفونٌ صباحي باكراً؛ أصاب بالذهول.. وتتراكم الصور أمامي لأحبتي الذين فقدتهم واحداً تلو الآخر.. بعد سماعي الخبر، ركضت إلى الصور، كانت كلها مغمضة العينين، ولم أعرف فيها من فينا الميّت، ومن الحيّ، حيدر حيدر يولم لنا في البعد الآخر وليمة طازجة.. وداعاً”..

وصاحب (الوليمة)؛ هو من مواليد قرية (حصين البحر – طرطوس)، سنة ١٩٣٦م، القرية التي تذكرنا بسعد الله ونوس المسرحي الذي سبقه في الرحيل، وهما يشكلان معاً قطبان عاليان للرواية والمسرح في العالم العربي، كلٌّ على طريقته في الإبداع..

وحيدر حيدر روائيٌّ من طينة الكبار، كانت له بداية فكرية متوقدة ومبكرة، أتمّ مراحل دراسته الأولى في مدينته، لينتقل بعدها إلى دمشق، وكانت أولى رواياته (الزمن الموحش) التي تحدثت عن تجربته في دمشق خلال سبعة أعوام، ومجموعة (الفيضان) القصصية الصّادرة عن اتحاد الكتاب الفلسطيني ١٩٧٥م في بغداد.

وبعد ذلك صدرت له رواية (وليمةٌ لأعشاب البحر – نشيد الموت)، الرواية الإشكالية، وقد حوربت من قبل الظلاميين والتكفريين، وكانت حرباً لصالحها في الخاتمة، وقد قرأها الملايين مشرقاً ومغرباً.. يذكر الشاعر فخر زيدان عن صدى هذه المعركة الضارية: “بعد اللغظ الذي نشب حول رواية وليمة لأعشاب البحر، قمنا بزيارة حيدر حيدر في قريته، مجموعة من الكتاب والشعراء والقاصين.. وكان العدد كبيراً فملأنا الصالون عنده حيث جلس حيدر على الحصيرة وسط الصالة يحدثنا.. وكان برفقتنا صديق من عربستان، فقال لي يا إلهي.. كاتبٌ بحجم حيدر حيدر يجلس بكل بساطة على الأرض بيننا؟”، ويُضيف: الوعول أيضاً ترحل..- وبغتة هذه الطعنة في الفقرات، والأعشاب تبكي على ضفاف الأنهار، والريح تحمل رائحة كريهة- كما قلت يا حيدر في مقدمة رواية .”الوعول” و”الزمن موحش” جداً يا حيدر.

وفي مدونة حيدر حيدر الروائية، وواسطة عقدها (شموس الغجر) ١٩٩٧م.. وقد استوقفتني هذه الرواية طويلاً، يوم كنتُ طالبة في الجامعة كلية الآداب – قسم اللغة العربية، إذ كانت آخر دراسة قمت بها في حلقات بحث عن الأدب الحديث في السنة الأخيرة، حيث طرح أستاذ المادة آنذاك عليّ العنوان.. بحثت عن الرواية، كان عالماً مميزاً متمرداً فيها على الواقع ومن محاسن صدفها تقاطع اسم بطلة الرواية مع اسمي، فكانت “راوية” بطلة الرواية، ابنة الغجر المتمردة على الدماء والمنخرطة في عالم البدائية الأول..

مقتبس من الرواية: “أبي.. الرجل الذي يسبق عصره، وينمو قبل أوانه، في عالم مغلق كالشرنقة، ها أنذا أروي حكايته، مخطوفةً بجاذبية النجم القطبي، ومأخوذةً بحلمٍ مجنون سحري، وأنا الوريثة البدائية لدمه.”..

رحل، نعم رحل.. وفي وداعك الأخير، وداع النوارس والسنونو، انظر أيها الراحل بكامل شموخك إلى السماء، إنه موسم الهجرة، فسماؤنا تعجّ بالسنونو والحوم، لا بدّ أنها في انتظارك تعرّج معها إلى ذاك العلو الشاهق.

وفي الختام؛ أذكّر بما كتبته الروائية ريم حبيب هذا الصباح:” الرجل الصامت والغاضب معاً، ورواياته المتموجة بين الحب والغضب وبين العنف والحنان الإنساني، هي ليست مفاتيح لفهم المجتمع فقط، هي أسست بجرأتها لمواقفه العملية، هو ليس حجر أساس في البناء الثقافي السوري فحسب، وإنما أمثال حيدر حيدر هم الأساس كله.”..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا خلال اليوم الثانى من ورشة العمل.. سياسة الحكومة تجاه المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والرؤية المستقبلية مؤتمر "كوب 29" يعكس عدم التوازن في الأولويات العالمية.. 300 مليار دولار.. تعهدات بمواجهة تغير المناخ تقل عن مشتريات مستحضرات التجميل ميدان حاكم سيلزم «إسرائيل» بالتفاوض على قاعدة «لبنان هنا ليبقى».. بوريل في ‏بيروت بمهمة أوروبية أم إسرائيلية؟ إنجاز طبي مذهل.. عملية زرع رئتين بتقنية الروبوت مركز المصالحة الروسي يُقدم مساعدات طبيّة وصحيّة لمصلحة المركز الصحي في حطلة القوات الروسية تحسن تموضعها على عدة محاور.. وبيسكوف: المواجهة الحالية يثيرها الغرب