حينَ تصبحُ القراءةُ جزءاً من الكينونة!

تشرين- جواد ديوب:
لا قراءةَ من دون كلماتٍ أو نوتاتٍ أو رموز، ولا كلمات من دون معنى مهما سهُلَ أو تعقّدَ أو تعدّدَ أو استبطَن، ولا معنى للشيء في ذاته إن لم يحمل إليكَ رشفةً من معنىً كونيّ أرحبَ وأنضجَ يبلُّ ريقَ المتعطّش إلى المعرفة، ويجعلُ حبقَ العقلِ عبِقاً، وخزامى الروح نضِرةً.
وعلى الرغم من أنّ هناك نصوصاً، كتباً، قصائدَ، “بوستات”، منشورات “فيسبوكية”، ورسائل تشبه سكْبَ الأسيد على جسد الكلمات، أو كما لو أنها قُدّتْ من صخر الأبجديات ولم يبللها ماءُ العقل ولا بنقطة… لكنْ ثمة نصوص تشتهي أنْ تحضُنَها وتنام، عباراتٌ تغريكَ بهفهفتها، استعاراتٌ تُغويكَ وتسحبك – مثل السائر في نومه- إلى مغارة كنوزها، ولآلئ صورها، ورنين موسيقاها.
هكذا “بذوق الأمير الرفيع” أقرأ… هكذا كالمتعطّش النّهمِ أتذوق شهدَ الكتب التي أتخيرها بعناية من ينتقي هديةً لمحبوبته.. لا ألتهم الكتبَ التهامَ المتضور جوعاً لأي لقمة، ولا أزدردها مثل الحصى أو شوكِ الصحارى أو الخبز اليابس، ولا أقرِضها مثل فئران المكتبات أو “دويبات” السقائف، ولا شأن لي بالسمعة المنتشرة للمؤلف أو الكاتبة، ولستُ ممن يستعرضون عضلاتهم الفكرية أو يفاخرون برياضاتهم الذهنية فقط ليربحوا سجالات مقاهٍ ونقاشات ندواتٍ وحروباً فيسبوكية أو أضواء “إنستغراميّة”… لكن ربما أفعل ما فعله الفيلسوف “هيغل” حين كان، بمتعةٍ وانفعال، “يسألُ” هسهسةَ أوراق الشجر، والينابيع، والرياح، والليل، والشمس… ليُدرِكَ قَدَرَ العقل”!
ويمكنني بخفة ساحرٍ يلهو أن أضعَ الفعلَ “يقرأ” بدلاً من الفعل “يسأل”، وأزيدُ فأقول: أنْ أقرأَ – بمتعةٍ وانفعالٍ – كي أصلَ إلى قشعريرة العقلِ وهو يُدرِكُ قدَرَهُ وقدرته معاً.
حنينٌ موجع!
في ذكرى طريفة أستحضرها مثل الحلم، بحنين موجعٍ، كلما ضاق بي الوقت ولم يسمح بقراءة كتاب أو رواية والاستمتاع بها، أرى أبي واقفاً في أحد باصات النقل القديمة، مستنداً بجسده إلى الزجاج الخلفي للباص، غارقاً في قراءة كتاب يمسكه بكلتا يديه، حين يتوقف الباص فجأة وبشكلٍ عنيف ما يجعل والدي ينقذف، كصخرة متدحرجة على طول الممر بين المقاعد من آخر الباص إلى جوار السائق المصعوق الذي يسأله: هل أنت بخير؟ فيجيبه والدي -الذي لم يستطع التمسك بأي مقبض خوفاً من أن يفلت الكتاب الكنز من يديه – يجيبهُ بخجلٍ ومن دون أن يلتفتَ إلى الركاب المتضاحكين: “آآآ، أنا فقط مستعجل وأريد النزول هنا، هنا بالضبط”!
لقد كان ذلك زمناً قديماً سعيداً، حيث كنتُ أشاهد عدداً كبيراً من السوريين في الباصات وفي الحدائق وفي الأماكن الحكومية يقرؤون كل ما يمكنهم شراؤه بنصف راتبٍ لأنهم امتلكوا قناعةً حقيقيةً بأنه من المعيب والمخجل ألّا يقرأ الإنسان ولو جريدة الأخبار المكرّرة، بل وحتى التسلية بقراءة دليل الهاتف أو الوصفات الطبية لأدوية أمراضٍ لم يصابوا بها، المهم أن يتعوّدَ المرء على فعل القراءة واكتشاف ما يمكن اكتشافه.
وقتها ضيّع والدي ثلاث كاميرات نوع زيِنت/Zenit وأضاعَ معها إلى الأبد ذكرياتنا المختبئة في “نيغاتيف” الفيلم، بسبب استغراقه في قراءة الكتب، ووصلت به الأمور حدّ التشاجر المستمر مع والدتي التي ظلّت، بغضب الزوجة، تتهمه بأن لا نفعَ منه في الحياة، وأنه لا يستطيع تأمين المال الكافي لشراء لوازم البيت بسبب “تبديده” لراتبه على شراء الكتب”عديمة الفائدة” إلّا في جعلنا- نحن أولادهما- أكثرَ جنوناً وبعداً عن الواقع مع عاطفةٍ قاتلة!
وبالفعل كادت تلك الكتب أن تطيحَ بعقولنا ليس لعظمة ما تختزنه بالتأكيد أو لأننا قرأناها كلها، إنما لأن قدراً قاسياً ساق إليها مجموعة من الشباب المتعصّب فأحرقوها كلها مع بداية الحرب على سورية، أحرقوا مكتبةً قضى والدي عمراً في جمعها وحشرها بين الثياب، وفوق رفوف المطبخ بين الصحون، وفي السقيفة، وتحت الدرج، وفي علب كرتون ضخمة في قنِّ الدجاجات… كلُّ ذلك كي لا يأتي زمانٌ مُرٌّ على أولاده فيقولون له: هذا ما جنيتَهُ علينا يا أبي، وما جنينا على أحد!.
جزءٌ من الكينونة!
“هذا العالم .. عندما يسافر البشر في عربة الدرجة الأولى، وكتبُ الأدب في عربة الشحن”… هكذا يصرخ ماركيز في روايته “مئة عام من العزلة” على لسان إحدى شخصياته؛ العالمُ  الكتلانيّ صاحبُ المكتبة المسحورة.
ونصرخ الآن: لن نستمرَّ في الوجود وإثبات أننا لسنا على هامش التاريخ البشريّ، ما لم يصبحِ الأدبُ جزءاً من كينونتنا وهويتنا ووجودنا اليوميّ، جزءاً عضوياً كالماء والهواء والخبز (وللأسف سنقول: ومثل وسائل التواصل الاجتماعي) وإلّا سننتهي إلى أن نكونَ رمادَ قلوبٍ محروقة بالخيبات، وقشورَ عقولٍ يبّسها اللهاثُ خلف “التريندات” الهجينة، وطحالبَ ألسنٍ عفّنها الزمن!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا خلال اليوم الثانى من ورشة العمل.. سياسة الحكومة تجاه المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والرؤية المستقبلية مؤتمر "كوب 29" يعكس عدم التوازن في الأولويات العالمية.. 300 مليار دولار.. تعهدات بمواجهة تغير المناخ تقل عن مشتريات مستحضرات التجميل ميدان حاكم سيلزم «إسرائيل» بالتفاوض على قاعدة «لبنان هنا ليبقى».. بوريل في ‏بيروت بمهمة أوروبية أم إسرائيلية؟ إنجاز طبي مذهل.. عملية زرع رئتين بتقنية الروبوت مركز المصالحة الروسي يُقدم مساعدات طبيّة وصحيّة لمصلحة المركز الصحي في حطلة القوات الروسية تحسن تموضعها على عدة محاور.. وبيسكوف: المواجهة الحالية يثيرها الغرب