المكتباتُ السوريّة… هل تتحوّل إلى «دكاكين»!
تشرين-جواد ديوب:
ربما لا يعرف كثيرٌ من الناس أن «مكتبة ميسلون» تحولت يوماً ما إلى مكتب صرافة يجلس فيها الموظفون غير عارفين هم أنفسهم أيضاً أنه بدلَ الأموال التي يكدسونها على رفوف الخزائن كانت هناك رفوفٌ تحتضن أعمال عظماء العالم مثل تولستوي ودوستيوفسكي وغيرهم، كما أن هناك من يمرّون اليوم من أمام «مكتبة نوبل» المغلقة من دون أن يعلموا أيضاً أنها ظلّت سنوات طويلة إحدى أهم المكتبات التنويرية في البلد مثل سابقتها التي أغلقت أيضاً «مكتبة اليقظة» الدمشقية، ومثل «مكتبة كردية» في محافظة اللاذقية، لمؤسسها الراحل يوسف كردية، والتي أغلقت العام الماضي «ليس لأنه لم يعد هناك قارئٌ سوري يهتم لشراء الكتاب -كما يقول أصحابها- بل لأسباب كثيرة منها قرصنة الكتب والتزوير ونوعيات الطباعة السيئة الدارجة، إضافة إلى الوضع الاقتصادي الذي تجاوز قدرة القارئ السوري».
«لا نقطفُ الورق من الأشجار»!
وبين مكتبات لا تزال تستقبل زبائنها أملاً بتحسن الأوضاع، ومكتبات عريقة أخرى يخشى أصحابها من مستقبلٍ قاتم… «”تشرين» التقت بِشر حسن مدير «مكتبة دار النَمير» (بفتح النون: أي الماء العذب) وسألته عن واقع الحال، فقال:
«إذا كان هناك من سبب لإغلاق المكتبات فهو بالتأكيد ليس مزاحمة الكتاب الإلكتروني كما يُشاع، قد يكون قلّل من إقبال الناس على الكتاب الورقي، لكن الدور الرئيس هو سعر الكتاب المرتفع مقارنةً مع دخل المواطن السوري، أي انخفاض القدرة الشرائية عند السوريين، والكتاب هو سلعة، فنحن لا نقطف الورق من الأشجار إنما نستورده بالعملة الصعبة، لكن الأقسى هو عدم ثبات سعر المواد الداخلة في «صناعة الكتاب»، إذ نحن كدار نشر ومكتبة بيع لا نستطيع أن نغامر بطباعة عشرة آلاف نسخة مثلاً من عنوان واحد أو من عدة عناوين، وفي المقابل نحتاج إلى أكثر من خمس سنوات لبيع هذه الكمية! أي، كما لو أنني واقعياً جمّدت هذا المبلغ لهذه السنوات، بدلاً من أنْ أترك لنفسي هامش حرية أكبر في البيع والشراء ولو بأعداد قليلة، لأن تكلفة طباعة ألف كتاب بحاجة إلى حد أدنى 7-8 ملايين ليرة سورية، من دون أجور حقوق الملكية الفكرية أو أجور الترجمة، ومن دون التدقيق والإخراج والتنسيق!
كما التقينا السيد «عمر النوري» ابن الراحل محمد حسين النوري مؤسس «مكتبة النوري» الأعرق في دمشق (أسست عام 1947 في نزلة السنجقدار/ساحة المرجة حالياً) ثم انتقلت إلى قرب ساحة الحجاز عام 1967)، والذي يقول بحسرة واضحة وباختصار شديد سببه إحساسه بعدم الجدوى:
«بصراحة وبكل أسف إن ما سيجعلنا نغلق ليس هو الحالة الاقتصادية العامة، فرغم صعوبتها والحصار الخانق علينا، فإن الكتاب مثلُه مثل أي غرض، هناك من يستطيع شراءه وهناك من لا يستطيع، لكن السبب الحقيقي وغير المعلن يكون في عدم اهتمام الورثة من أبنائنا بهذه المهنة، لقد أصبحوا يتّجهون نحو ما يجلب لهم ربحاً سريعاً، بغض النظر عن قيمة ما يفعلونه، لم يعد عندهم الصبر على البقاء ساعات طويلة حتى يأتي زبونٌ ما لشراء كتاب، انظر مثلاً إلى كل تلك الرفوف من الكتب التراثية والدينية، لم تُبَع من نحو عشر سنوات منذ أول الحرب، في حين لا تزال كتب الأدب والروايات وكتب القانون هي الأكثر رواجاً عندنا.
«قرطاسيات» وليست مكتبات!
نسأل الأستاذ حسن حسن (وهو صحفي متقاعد، ووالد بشر حسن مدير مكتبة النَمير): هناك مَن يتوقع مزيداً من حالات إغلاق المكتبات في ظل عدم الدعم الحكومي، كيف ترى الواقع؟
يقول: «بكل صراحة أقول إن الدولة (وزارة المالية تحديداً) تقلل الضرائب على أي مكتبة أو دار نشر باعتباره مكاناً لنشر الثقافة، وهو مبلغ مقبول جداً سنوياً، فلو تعاملوا معنا كما يتعاملون مع أي مطعم أو كافيه لكانت كل مكتبات البلد قد تحولت إلى أطلال، حتى إن وزارة الثقافة داعمة بشكل لا يصدق، إذ إننا نشتري الكتاب من مطبوعاتها بما يقارب 500 ليرة سورية بينما تكلفته الواقعية عند الوزارة أكثر من عشرة آلاف ليرة سورية! إذاً لا يمكن أن نظلم الوزارة كجهة حكومية فيما يخص موضوع دعم الكتاب…لكنّ ما نعيشه حالياً ليس ازدهاراً كما في الثمانينيات والتسعينيات أو حتى ما قبل الحرب، إنما هو محاولات مستميتة للاستمرار، أشبه بصراع الوجود، وما تراه في سوق المكتبات في منطقة الحلبوني أو غيرها هو في الحقيقة «قرطاسيات» أي محالّ لبيع الأقلام وريش التلوين والدفاتر…إلخ وللأمانة هؤلاء تعاملهم وزارة المالية باعتبارهم «دكاكين تجارية»!