صدعٌ في الصورة أم على جدران القلب؟!
تشرين-جواد ديوب:
لا تزال تقصفنا صور الزلزال رغم كل محاولات تأسّينا وترميمَ أنفسنا، تقصفنا وتفتحُ في الذاكرة فجوةً لا يمكن ردمها بالحنين، تنكأ جروحَنا؛ فيسيلُ الوجعُ على كامل الروح.
فجأةً تصبحُ صورةٌ ما الدليلَ المؤذي على أننا أبناء الهباء، وأننا حين كنا نلتقطُ تلك الصور؛ لم يكن قصدنا أن نؤبّد اللحظات الهاربة، ولا أنْ نعينَ الذاكرة على تحمّل ثقل الغياب والفقدان، بل كنا -من دون أن ندري- نؤكّد على الشيء الوحيد الذي لا نستطيع إيقافه: الموت! لقد كنا نساعدُ الموتَ على إكمال مهمّته بأفضل طريقة ممكنة!
أتأمل الصورَ المرفقة، وتسيلُ الموسيقا مثل الدمع، وينزفُ البزقُ أنغامه، وتكرجُ النوتاتُ مثل لؤلؤ عِقدٍ مقطوع، بينما أتخيلُ أصابعَ العازفِ الغائبِ خائفةً موجوعةً تتوسلُ الخلاص بين ركام الوقت، كأنّ الأنا مجرّدَ «ماكيتٍ» مزيّف، قرميدة مكسورة، والروح ليست سوى شرخ في الجدار.
أتأمل شَعرَ تلك الصبية، وأنوحُ مع فيروز «يا زمان، يا عشب داشر فوق هالحيطان… صرّخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا»… وتتواشجُ الموسيقا مع العواطف، مع الأنفاس، مع الهدهدة والترنيم والتجويد وحشرجات أحلامِ الناسِ النائمين الذين حين ماتوا؛ انتبهنا إلى أنهم كانوا موجودين!
لا أُشيعُ التشاؤم أو العدمية، ولستُ ممن يعشقون تعذيبَ أنفسهم والآخرين، لكني واقعيٌّ إلى درجة القول إنه ستلزمنا حياةٌ بأكملها وحدادٌ طويلٌ خفيٌّ لتحمّل شقاءين: شقاءُ ما نحن عليه، وشقاءُ ما نحلمُ أن نكونه بعد الكارثة!
ورغم قوة الكلمات التي ينطقها الشاعر أدونيس في عقلي الآن:
«في الكون شيءٌ يُسمى الحضور، وشيءٌ يُسمّى الغياب/ لم تلدنا سماءٌ لم يلدنا تراب/ إننا زبدٌ يتبخّرُ من نهر الكلمات»…
لكنّ شيئاً ما غامضاً مثل نداءِ قلوب الأمهات يصرخ بي: رمّمْ جراحَك وانهضْ، ارتقْ ما تفتّقَ من خاصرتكَ وقلبكَ بخيط الأمل، وانهض مثل حصان الحرب الناجي، ليس من أجل نفسك فقط، بل من أجل من يستندون عليك.
وها أنا أستعير قولَ الأرجنتيني بورخيس في أنّ «كلَّ شيء وُهبَ من أجل غايةٍ، كل شيء يحدثُ بما في ذلك الإهانات، الإرباكاتُ، لحظاتُ النحس (لحظات الكارثة) كلها توهب لنا كقطعةِ طين، كمادّةٍ لفنّ المرء، يجبُ على الإنسان أن يقبلها – كطعامٍ عتيقٍ للأبطال- كي نحوّلها ونجعلَ من الظروف التعيسة لحياتنا أشياءَ أزليةً»!
نعم، فرغم أنه من الصعب جداً أن نتخلّى عن العاطفة ونحن نشاهد ونتابع، لكن الانتحارَ حتى مجازاً لا ينفعُ، ولا يوصلنا إلى الفهم العميق، بأنه حتى وإنْ كانت حيواتنا مجرّدَ «لمعة فلاش» من كاميرا عملاقة وأننا لا نعدو كوننا ذاكَ الصوت المثير المنبعث من مغلاق العدسة «تشك» لا أكثر… لكن علينا أن نقارعَ فكرةَ الزوال بكل ما يمكن مِن عقلِ وهمّة وشِعرٍ وموسيقا… والكثير الكثير من الحب.