حكايةٌ «استراتيجيّةٌ»
تتكفّل الكوارثُ عادةً بعصفٍ ذهنيّ من طرازٍ إيجابيّ على الرغم من هول التفاصيل، فكما فجّر الزلزالُ طاقات التكافل الوجدانيّ والسلوكيّ، حفّز أيضاً «محرّكات البحث» عن الهفوات، ولو بكثير من الهلع وقليلٍ من التركيز.
والحربُ أيضاً بأوزارها الثقيلة تفرضُ عادةً مراجعاتٍ تصلُ أحياناً حدّ «جلد الذات»، لكنها تبقى مفيدةً وضروريّةً في سياق البحث عن مخارج وبواباتٍ للخلاص.
في الأمس، كانت لافتةً صراحةُ الرئيس الروسيّ «فلاديمير بوتين» في تشخيصه هفواتٍ اقتصادية خطرة، وهو يتحدث أمام النخبة السياسيّة في الجمعية الفيدرالية.. ومن أهمّ مالفت إليه هو هشاشةُ بنية قطاع الإنتاج الصناعي الروسيّ – من المؤكد أنه يقصد التصنيعَ المدني- واعتمادُ البلاد على الصادرات الخام، والأخطر أن «الخام الروسيّ» كان عمادَ الصناعات الأوروبيّة التقليديّة الثقيلة والتحويليّة، أي كان سرّ انتعاش اقتصادات دولٍ تحوّلت إلى عدو غادرٍ لروسيا.
طبعاً، الحربُ مع أوكرانيا والاصطفافاتُ الجديدة هما وراء مثل هذه المراجعات الموجعة، كجزئية جديرة بالاهتمام في سياق خطابٍ شامل.
جزئية «سقطة الاقتصاد الخام أو غوايته» ذاتها كانت خلاصةَ استنتاجاتنا نحن أيضاً في مراجعاتنا إبّان حربنا الطويلة مع الإرهاب، ومن ثمّ الحصار الخانق.. وعلى الرغم من التباين الكبير بين قوام صادرات الخام الروسي والخام السوري، فإنّ حسابات النسبة والتناسب تجعل المقاربة ممكنةً، لجهة فوات المنفعة والخسارات التي ترتبها مثل هذه «الهفوة الاقتصادية» المدمّرة فعلاً، وربما لم يخلُ لقاءٌ لسيادة رئيس الجمهورية مع السلطة التنفيذية من توجيه استدراكيّ في هذا الاتجاه.
نحنُ مأزومون فعلاً بـ«لوثة الخام» في زمنٍ نبدو فيه في أمسّ الحاجة لكل لمسةٍ من تلك التي يسمّونها «قيمةً مضافة» بما تنطوي عليه من علاواتٍ مجزية مكمّلة للإنتاج الأوليّ، وفرص تشغيل واستثمار وتحريك حقيقيّ لعجلة التنمية.
وإن تحرّينا عن الفرص الضائعة والميزات المهدورة، فإننا سنجدها في قطاع التصنيع الزراعي المكمّل اللازم والضروريّ لكلّ تلك الحكاية الطويلة والموجعة التي اسمها «الزراعة السورية».
استراتيجيّاً، لا يجوز أن يكون أكبرُ مصدّر للزيوت المعبأة في العالم هو ذاته أكبر مستورد لزيت الزيتون السوري الخام، ولعلّها تهمة أن تخلو بلادنا من مصنع واحد لتكرير وتعبئة هذا المنتج الذي نحتفل بمواسمه «كرنفالياً» ونملأ الدنيا ضجيجاً، ثم تخطفه «ثلةُ تجّارٍ» وتصدّره بصمتٍ بعيداً عن دائرة الضوء.
لن تنتعش زراعتُنا ولا صناعتنا من دون تصنيع زراعيّ، ولن نحقق الاستدامةَ والتوازن في العرض والطلب، وتالياً درء النقص أو الفائض حتى الكساد من دونه.
هنا نسألُ عن قطاع أعمالنا، وهل فعلاً لدينا رجالُ أعمال أم «تجارُ شنطة» ومنتهزو فرص ولاعبون مهرة في التقاط الفرص واللعب تحت طاولات السلطة التنفيذيّة على ثغرات القوانين والعلاقات الشخصية بثمن أو بلا ثمن..؟؟.
كل ماهو قابلٌ للتصنيع يجب أن يكون ممنوعاً تصديرُه خاماً.
قبل أن نختم سنلفتُ إلى الحلقة الأخطر في عموم المشهد الزراعي لدينا، وهي أن زراعاتنا التي سمّيناها استراتيجيةً تمّ توطينها في زمن «الفرنسي» الذي أرادها خاماً لصناعاته الضرورية، ولاسيما القطن والشوندر، وعلى أساسها، أقمنا منشآت السكّر والغزل والنسيج، لنكتشف اليوم استحالة استمرار هذه الزراعات، وتالياً انهيار بنية صناعية هائلة تغنّينا بأنها قاطرة التنمية و«أمّ الصناعة السورية»..
نحن في أمسّ الحاجة إلى إعادةِ هيكلةٍ، والأدقُ إعادة هندسة عميقة لحياتنا الاقتصادية، وربما الاجتماعية أيضاً.. فمَنْ يدري؟؟