لا تتطابق «الذائقة» بين شخص وآخر تطابقاً رياضياً يعطي النتائج نفسها إذا عومِلت فيه الأعداد بقاعدة واحدة هي صارمة وصمّاء كيوم اكتشافها، لأن الذائقة مزيجٌ من الخبرات والمعرفة والثقافة والمزاجية الرفيعة، لكنها رغم ذلك تُستخدَم في التقييم كما يُستخدم الميزان في حساب الثّقْل ليحكم بين البائع والشّاري، ويحسم الخلاف على الوزن والسعر، ولعلّ هذا الميزان الحسّي المرئي كان عوناً «مجازيّاً» لوزن القضايا الإنسانية فاستُعير شعاراً للعدالة، ووضِع في يد إنسان مغمض العينين حتى لا يميل ميلَ العاطفة المتقلّبة ويسقُطَ الظلمُ على مظلوم! وهذا الميزان غير المرئيّ يرافقنا في كلّ لحظة وكلّ خطوة في حياتنا لأننا مجبرون على الاختيار، ونحرص، أبداً، على التوازن وعدم الخسائر ومواجهة الندم حيث لا ينفع ندمٌ إذا أخللنا بكفّتيه، فماذا عن هذا الاختيار إذا كان تكليفاً نحدد فيه مصائر بشر رغم أنها لا تُطرح تحت قوس عدالة ولا تتضمّن مخاصمة «قانونية» بل عملاً إبداعياً يتنافس على جائزته متنافِسون بما يُعرف في أدبيات العصر بـ «التحكيم»! ولكم شاعت هذه المهنة بالضرورة في منافسات الرياضة والغناء والآداب بكل أنواعها، وباتت لها جوائزُ ولجان ومختصون وتقاليدُ ملزِمة ومكتوبة في بنود، لكنها رغم ذلك تتلقى بدورها النقد المرّ وتخرج من كواليسها أحداثٌ تثير الجدل وتلقى انتقاداتٍ تفوق ما تسوقُه هي نفسُها على الأعمال التي بين يديها، والواقع يساعد على تأجيج مثل هذه الانتقادات، فهناك فنانون ترفضهم لجان التحكيم لكنهم يتألقون بعيداً عنها أكثر ممن أعطتهم قبولاً وتطويباً، وهناك موهوبون قد لا تكشف لجان التحكيم خفاياهم التي ستُبهر الجمهور فيما بعد، وهناك لوحات فنّ تشكيلي تُستبعَد فتغدو من اللوحات الخالدة، لكن هذا لا يعني قَطّ الاستغناء عن لجان التحكيم، ومرةً أخرى الميزان هنا هو الذائقة التي لا يمكن حسابها بالغرامات، ولطالما نشبت حوارات ساخنة بين أعضاء اللجنة، وبدت فيها الثقافة والمنطق والدراية حتى يتمَّ العثور على مساحة لقاء واتفاق، ما عدا ما يمكن أن نجده في حفلات تسليم الجوائز أو يُطرح في المعارض أو للتداول من أعمال بائسة لا يُلام عليها أصحابها بل لجان التحكيم التي أجازتها، وببساطة يكون الأمر انحيازاً لا يستطيع صاحبه أن يدّعي أن في هذا العمل «رؤيا» يصعب التماسُها من شخص عادي لا يمتلك الوسائل لكشفها وتقدير جوهرها، وفي مثل هذا «الفضاء» العالي يجب ألا تُكرّس مثلُ هذه الأعمال وتُحمى رغم الثقة بالزمن الذي يغربلُها وبأن الثمرة العفنة لا تبقى طويلاً على غصن أمها الشجرة مهما تغافلت هذه الشجرة عن واجبها في إسقاط ما عليها من يابس وأعجف أو غيرِ تامّ الخلق!
نهلة سوسو
123 المشاركات