الرجل المُعنّف..ظاهرة مسكوت عنها.. وتساؤلات عما تبقى من تجليات مفهوم المجتمع الذكوري
تشرين- أيمن فلحوط:
عندما نقول تعنيف تذهب التحليلات والاستنتاجات إلى المرأة فقط.. صحيح أنه الأكبر في مجتمعاتنا، ولكن ماذا عن تعنيف الرجال؟
فكم تخبئ العيون ضعفاً وحزناً وراء الابتسامة الذكورية، التي يجب أن تظهر لمجتمع لا يعترف إلّا بقوة الرجل، ونسوا أنه يمكن أن يتعرض لتعنيف مباشر، وغير مباشر وأنه إنسان بكتلة مشاعر.
جاء لشقيقته ممزق الثياب، وآثار الكدمات على وجهه ويديه، فسارعت للاستفسار منه.. ومن فعل بك ذلك.. هل كنت في مشاجرة مع أحدهم؟ فجاء الرد مدهشاً: زوجتي.. لترد عليه، ولماذا لا تدافع عن نفسك.. فكان جوابه صاعقاً: إنها امرأة وهل تريدين أن يقولوا “ضرب امرأة؟”.
في حالات أخرى تعرض فيها الرجال لتعنيف من نوع آخر لفظي كتهديد مباشر “والله لنخبر عنك”، كما نقل لنا أحد المشرفين في عدد من الجمعيات الأهلية التي كان دورها إرشادياً ونفسياً، ووصل عددها وفقاً للمشرف إلى 70 حالة متنوعة في إحدى مدن ريف دمشق، ويخشون البوح بها، لأنها تتعلق بشخصيتهم من جهة، أو لاستغلال واقع يعيشونه، تجنباً للخنوع بدلاً من الذهاب إلى السجن.
اختصاصية نفسية: المعنف قد يعيد التفريغ بأولاده وزملائه في العمل
تروي الاختصاصية النفسية الدكتورة غنى نجاتي لـ” تشرين” أن حالة جاءتها للعيادة كانت تعرض شاب للتعنيف من قبل والديه، وهو بالغ راشد، ما أثر في ثقته بنفسه، وبمن يحيط به، وأصبح لديه خوف من الارتباط، نظراً للتردد والشك في اتخاذ أي قرار، ولا يستطيع أن يعمل أي شغل مستقل دائماً، فيظهر تابعاً ما أثر في صحته النفسية، فعملت على المعالجة من خلال عدة جلسات في العيادة.
وترى د. نجاتي أن تعنيف الرجال يؤثر في نفسيتهم، وثقتهم وصحتهم النفسية، وقد تكون دائرة العنف الموجهة للرجل من قبل أب ظالم أو أخ وربما أخت ظالمة، أو جد أو جدة، وأحياناً من بعض الزوجات لبعض أزواجهن، وهذه الحالة ليست منتشرة بكثرة في مجتمعنا، نظراً للتستر عليها من باب الخجل، ولكي لا تهتز صورة الرجل الشرقي من الأنا الأعلى لديه.
وتشير د. نجاتي إلى أن العنف حلقة مفرغة من الطاقة السلبية الهدامة، قد يعيد المعنف تفريغها بأولاده وزملائه في العمل، ولا يتم كسر دائرة العنف تلك إلّا من خلال العلاج النفسي.
في المجتمعات الأوروبية لديهم الكثير من الجرائم التي تقوم بها النساء ضد الرجال، ويحكى عنها كثيراً، وتكون تحت مسمى الغيرة والخيانة والتسلط والحب المرضي.
التعنيف الدائم
في رحلة عملها الاستشارية النفسية والأسرية عزة كردي تشير لـ” تشرين” أن جلساتها مع المراهقين الذكور، الذين يتعنفون من آبائهم وأمهاتهم، كانت مليئة بانكسارهم وتمردهم، وهذه مرحلة خطيرة جداً في حياتهم، وهناك من يتعرض من شريكة الحياة لتعنيف مباشر لفظي أو حتى جسدي بسبب الظروف المعيشية القاسية، ومن الحالات أيضاً رجال وضعهم الصحي لا يسمح لهم بالعمل الدائم فيكونون عرضة للتعنيف.
استشارية أسرية: يخلق ندوباً عميقة وجروحاً يصعب أن تلتئم
الموظفون والعاملون في مؤسساتهم العامة أو الخاصة، هم عرضة أكبر للتعنيف الدائم، بل أصبح التعنيف كالملح يرش كل يوم لإضافة نكهة خاصة.
تبين الاستشارية كردي أن هذه الحالات سوف تخلف ندوباً عميقة وجروحاً يصعب أن تلتئم، وهشاشة نفسية وضعفاً في الصحة النفسية والجسدية والعقلية، ما يؤثر في توازن العلاقات في المحيط القريب والبعيد، وتظهر أمراضاً جسدية تدريجية نتيجة الكبت والمعاناة.
كل مشكلة ولها حل
تطالب الاستشارية كردي الرجل المعنف أن يبادر لطرح استشارته بكل قوة تثبت أنه إنسان واع، ليكون المشجع لغيره ليحذو حذوه، والهدف هو الحد من التعنيف، وكيفية التعامل معه، وهذا حق مشروع لكل إنسان يقدر ذاته ويحترمها ولا يسمح بغير ذلك، فأنت مسؤول تجاه نفسك وتجاه مجتمعك.
تعود كردي للماضي القريب لتروي لـ” تشرين” عن حالات كانت على تماس مباشر معها في ميدان المعالجة والمتابعة للتعنيف، كحالة شاب في عمر 18 عاماً تواصل معها برفقة شقيقته الحريصة على مساعدته رغم أنها تصغره بعام، لكنها تسعى لحل مشكلة تعنيف والده له بالضرب لأتفه الأسباب، فبدأ الشاب يعاني من اكتئاب، وهرب من المنزل عدة مرات، وهو في بداية طريق الانحراف الأخلاقي، فقدمت له خلال الجلسات النصح والإرشاد، واستقدمت والده ووالدته لوضع النقاط على الحروف في علاقتهم مع ابنهم قبل أن يفقدوه للأبد.
وفي استشارة أخرى يعاني رجل عمره 33 عاماً من تعنيف مدير الشركة التي يعمل بها، من باب التسلط والمفاخرة بالمنصب، وممارسة التعنيف اللفظي على الرجل بالشتم والتهديد المتكرر بالفصل من العمل، والرجل كان في حيرة من أمره لا يريد أن يكبر الأمور، خوفاً على رزقه، فهو أب لطفل، وبات مكسوراً حزيناً خائفاً، وطبعاً في هذه الحالة السكوت عن التعنيف يزيد منه، ويغذيه أكثر ويسمح للمعنف أن يتمادى، ومن خلال عدة جلسات تمكنّا من تجاوز حالة الضعف لديه والنهوض من جديد، ووضع الأمور في مواضعها الصحيحة.
ضمن مواد القانون
وللوقوف على الجوانب القانونية لمسألة التعنيف أوضح القاضي طارق الكردي مستشار بمحكمة جنايات الثانية بدمشق في حديثه لـ” تشرين”، أنه لا يوجد نصوص خاصة بالعنف الممارس على الذكور، وإنما تندرج ضمن المواد المنصوص عنها بقانون العقوبات، التي تقع تحت الإيذاء الواقع على الأشخاص، من خلال المواد 540 وما بعدها من قانون العقوبات، وقد فرق القانون بين الإيذاء الجسدي، والعنف اللفظي أو المعنوي تحت مواد التهديد، سواء كان التهديد عن طريق سلاح أو باللفظ أو إفشاء نوع من الأسرار.
مستشار بمحكمة الجنايات الثانية في دمشق: لا يوجد نصوص خاصة وإنما تندرج ضمن قانون العقوبات التي تقع تحت الإيذاء الواقع على الأشخاص
ونجد في القانون عقوبات شديدة جراء التهديد، وتالياً برأيي لا حاجة لنصوص خاصة للتعنيف، طالما أن قانون العقوبات يعاقب من يمارس الإيذاء، سواء كان جسدياً أم معنوياً على الأشخاص.
وتندرج العقوبات وفقاً للقاضي الكردي بين العقوبات الجنائية الوسط من 3- 15 سنة لذلك كانت عقوبات قاسية، وعقوبات جنحاوية الوصف.
ليس إهانة للرجل
أضاف القاضي المستشار الكردي: لم تكن تردنا سابقاً أي حالات بقيام رجل بالإدعاء على زوجته أو على أنثى أنها قامت بضربه، أو تعنيفه من منطلق أن المجتمع الشرقي يعدّ ذلك انتقاصاً من رجولته، لكن الحرب على سورية فرضت نفسها أيضاً في هذا المجال، بزيادة الوعي أن الشكوى واللجوء للقضاء ليس إهانة للرجل، خاصة مع ازدياد انتشار تلك الحوادث على مواقع التواصل الاجتماعي، ويعرف بها الجميع، لجهة تعرض الرجل للعنف من الأنثى، ويشهد القضاء حالياً عدة دعاوى مرفوعة من الرجال على النساء.
وأشكال الأذية حسب القاضي الكردي متعددة، فقد تتطور المشادة الكلامية بين الزوج والزوجة إلى شجار بالأيدي، وفي أحيان أخرى تستعين الزوجة بإخوتها وأقاربها ليقوموا بالإيذاء كالضرب مثلاً.
القضاء يوصف الحالة من خلال عرض المصاب على الطبيب الشرعي، الذي يقرر نوع الإصابة، ومدى التعطيل عن العمل عشرة أيام أو فوق ذلك، وبناء على تقرير الطبيب الشرعي نقرر المادة التي يتم تطبيقها مع الفعل الحاصل، أو الإيذاء الجاري على المعتدى عليه، وحسب نوع الإيذاء الذي قد يتسبب بعاهة، أو بتر أحد الأعضاء، كما حدث ذلك في إحدى القضايا التي كنت قاضياً فيها، بقيام الزوجة بقطع أحد أصابع زوجها، وهنا يكون الجرم جنائي الوصف والعقوبة من 3-15 سنة على المعتدي.
وتندرج العقوبات من الحبس التكديري أو الحبس10 أيام على الأكثر، وهناك الحبس لثلاثة أشهر، وقد يصل لثلاث سنوات.
وقد يكون هناك تعنيف لفظي من خلال قيام الزوجة بالتهديد لزوجها بقولها “والله لبلغ عنك” من منطلق أنها تعرف كل أسرار زوجها، وربما يكون مرتكباً لجرائم تموينية أو يتعامل بغير الليرة السورية، أو لديه أفعال غير أخلاقية.
وقد يصل التهديد اللفظي ليكون صريحاً بالقول “بجيب أخي ليقتلك.. أو تقول له بخفيك..” وخاصة في الحالات التي يكون فيها طلاق تكثر مثل هذه التهديدات، وربما يكون التهديد عن طريق الرسائل، أو عن طريق شخص آخر من أقارب الزوجة، ومعظم أشكال هذا التهديد تندرج تحت المواد 563 وما بعد.
وبقيت أعداد تلك الدعاوى محدودة فقد ترد بالشهر أو الشهرين دعوة واحدة أو دعوتان، وغالباً بعد تحويل الشكوى إلى مخفر الشرطة لإجراء التحقيقات يتم التنازل عن الدعوة أو يحصل إسقاط لها، وقليلة الدعاوى التي تتم متابعتها حتى المراحل الأخيرة، وفي العام لا تتجاوز عشر دعاوى.