اختبارُ الياقاتِ البيضاء!
ليستْ ثمّة جدوى للبكائيّات والتفجّع، على الرغم من هول الكارثة التي خلّفها الزلزال في المحافظات المنكوبة، وفي البلاد على نحوٍ عامٍ.. فما بعد إنقاذ مَنْ أمكن إنقاذُهم، و«هبّة الإغاثة» والمبادرات الطيبة التي سجّلها السوريّون، مؤسسات وأفراداً، وكذلك الأخرى الدوليّة التي لم تكترث لقيود السياسة، ووثّقت للتاريخ استجابةً لن ننساها، نحن السوريين.. ما بعد كلّ ذلك، فإنّ ثمة أولويّات تتعلق بمصير المنكوبين الناجين بحياتهم، لكنهم مفجوعون ببيوتهم وممتلكاتهم وأرزاقهم.. والحقيقةُ أننّا هنا، في هذه الحيثية – المأوى والرزق- نجد أنفسنا أمام مشهدٍ قاتمٍ يخيّم على آلاف الأسر المنكوبة من الحرب، لا من الزلزال فحسب.
في السؤال «ماذا بعد؟!» ما يتكفّل بإحراج إقليم بأكمله، وليس مجرد حكومةٍ أو دولة كسورية، أنهكتها اثنتا عشرةَ سنةً من الحرب والحصار، لكنْ يبقى ثمةُ ما يجب، ويمكن فعله، لأننا أمام حالةٍ راهنة «مصيريّة» بكل دلالات المصطلح.
الواقع، أن في مبادرات الدول التي هبّت لنجدة الشعب السوري متغيّراً بالغ الأهميّة، كما أنّ في فسحة «رفع العتب» التي أعلنت عنها وزارةُ الخزانة الأميركيّة متغيّراً لا بدّ من التقاطه بحذاقةٍ، ليس من قبلنا، نحنُ السوريين، حكومةً وقطاع أعمالٍ فحسب، بل حتى من قبل الدول صاحبة مبادرات الاستجابة وكسر الحصار… فسورية في مأزقٍ خانق قبل الزلزال، وما بعده المشهدُ أكثر تعقيداً.. وإن كانت الاعتباراتُ الإنسانيّة هي ما حفّز الاستجابةَ الدوليّة على إيقاع الزلزال، فالاعتباراتُ ذاتها لا بدّ أن تبقي الباب مفتوحاً أو موارباً على الأقل في اتجاه سورية، لأن مهمة الإغاثة لم تنتهِ، ولن تنتهي على المدى المنظور، وفقاً للوقائع المأسويّة على الأرض التي ربما لمسها –بسبب الزلزال– كلُّ من عاينَ الوضعَ عن قربٍ، ولاسيّما ممثلي المنظمّات الدولية.
ولنكونَ موضوعيين، فإنّ علينا ألّا نحمّل الحكومات وحدها مسؤوليةَ التقاط الفرصة، بل إنّ المسؤولية الأكبر تقع على عاتق قطّاع الأعمال بمختلف اختصاصاته، وهيئات ومنظمات المجتمع الأهلي في سورية وفي البلدان التي أبدت استجاباتٍ واستعداداتٍ للتعاون.
بالفعل، يقفُ قطاعُ الأعمال السوريّ اليومَ أمام اختبارٍ يستحقّ الوصف بـ«التاريخيّ»، إذ كيف سيستثمرُ الأبوابَ المُشرّعة، وكم يمتلك رجالُ أعمالنا من علاقات مع نظرائهم في الخارج، وكم لدينا من رجالِ أعمال حقيقيين، أي «من الوزن الثقيل»، والأهمُّ هل بقي ما يخصّ الهوية السورية –هوية المواطنة والانتماء– في جيوب رجال الأعمال السوريين الذين غادروا البلاد مع أول رصاصةٍ أُطلقت في الحرب على سورية؟؟.
فدوماً، في مجالس العزاء تتكفّل المواساةُ بتخفيف المصيبة، لكنْ بعدها يبقى المفجوعون يلملمون مأساتهم بأنفسهم، وبمساعدة مَنْ هم في دائرة القربى الضيقة، واليوم في مأساة «الأسرة السورية» لا بدّ من أن نتحرّى عن قوام دائرة القربى، والتاريخُ يُسجّل، والذاكرة لا تسهو، والوجدانُ لا ينسى، ولا يُهمل.