ليس ممكناً أن يحتمي المرء من الهواء حتى في غرفة حديدية غير نَفوذ، كذلك باتت الأخبار تطيش في الأثير، ولا يمكن ليدٍ أن تقبض على نثارها حالُها حالُ غبار الطّلع حين يثور في الرّبيع، وكيف يمكن أن يحتمي السَّمْع من انفجار ذلك الزلزال وتردداته التي صارت محمولةً على ضجيج انهيار السقوف والجدران وصراخ المفجوعين على الأحباب وهمهمة الأحياء في أحشاء الأرض لعل معجزة إلهية أو مصادفةً تمد إليهم حبلَ النجاة، وهم ليسوا واحداً ولا اثنين، بل بالآلاف الذين انكشف عنهم ضوءٌ بطيء، لم يتلاشَ مع الوقت بل ازدادت رقعته، ازديادَ مدٍّ بحري لا سدود أمامه!
«القيامة الآن» وفي كل خبرٍ تفصيلٌ جديد مثلَ نصلٍ رهيف ينغرز في القلب، حتى خرج زلزالٌ آخر بالتزامن! زلزالٌ مقابلَ ثورة الأرض العمياء التي لم تُبْقِ ولم تذرْ، بدأ شفاّفاً لكنه قويّ ومقتحم، إنه الزلزال الذي أعيا الفلاسفة والشعراء توصيفه! ذلك الذي لا علاقة له بالجيولوجيا ولا بطبقات الأرض التي تتحدث بطريقتها، إما براكين أو زلازل أو انزياحاتٍ جبارة، بل له علاقة بالإنسانية ومثلَ لغة الأرض، ينتظر اللحظة المناسبة لينبثق!
بعيداً عن بؤرة الزلزال في الجغرافيا لا تتوقف الارتدادات على النفس، ويا لها من ارتدادات لا يمكن ضبطها على مقياس «ريختر» ولا حسابها بعلوم الرياضيات، فهي باقةٌ من تداعيات الذكريات والخبرات والتجارب، وها هي ذي الروايات التي حرّرها الأدباء عن حياة شعوبهم ووقفنا على بوّاباتها ونحن نطأطئ الرؤوس إعجاباً وتأثراً ومعايشة: «الحرب والسلام» لتولستوي، «لمن تُقرع الأجراس» لهمنغواي بل وملحمتا «الإلياذة والأوديسة» وعشرات الأعمال لكل شعوب الأرض، لكن التفاصيل التي نهضت عقب «الزلزالين» السوريّين كانت أعلى وأقوى مما كتبه كل أدباء العالم عن معاناة ومآثر شعوبهم، وكل صوت حكى، وكل عينين دمعتا أو توهجتا ببريق، وكل سوارٍ ذهبي وصل من صندوق مسنّة ليبية، وكلُّ قافلة لم ينقطع تدفقُها من ضفاف دجلة والفرات، وكلّ يدٍ رفعت العلمَ السوري في عاصمة عربية أو أجنبية، وكلُّ مدّخرات متواضعة خرجت من مخبئها وكلُّ رغيف تُقوسم بين جائعين، وكلّ طفلٍ تخلى عن معطفه، وكلُّ سيدةٍ تركت مطبخها بارداً وهُرعت إلى مطبخٍ جماعي، صنعت تفاصيل مذهلة للملحمة السورية، وكأن هذه الأرض قد تمرّنت طويلاً ومنذ فجر التاريخ على كتابة سيرةٍ ذاتية لتصل إلى ملحمتها التامة!
سيجد الروائيون تفاصيل «التراجيديا» جاهزة ولا تحتاج إلا للتحرير الكتابي»؟ لا يهم، لأن الرواية ستُحكى طويلاً في السهرات والتجمعات والتأملات الفردية والأغنيات بل حتى أثناء تبادل التحيات العابرة بين من لا يعرف بعضهم بعضاً.
على مدى الثواني يصعب ألا تتجدد «الارتدادات» التي تبعثها، مثلَ العواصف، مساماتُ الأرض وأزهار الحب الإنساني المذهل!
نهلة سوسو
123 المشاركات