حكايا الصور.. الزلزال والأرواح المتكسرة تحت الركام
تشرين-راوية زاهر:
“محتضرون نتلو وصايانا
على وقع الموت القريب
مع سورة الزلزلة،
والأنين البعيد..
محتضرون نناجي
ربّاً بعرشه المكين؛
إن كان من الموت بدّ،
فليكن برفقة من نحبّ
نساق جمعاً إلى مثوانا الأخير”.
بأيدٍ مرتعشة من خشية الردى والفقدان والخوف والحذر أمسكَ الأحبة بأيدي أبنائهم وإخوتهم ليمدوهم بأمل النجاة وحرارة الحياة، كانت وسيلة النجاة الوحيدة ريثما يُصار إلى رفع الركام.. هي حال بلادي التي أوجعها رجعُ صدى الموت المتكرر في تفاصيل الوجود منذ ما يزيد على العقد من السنوات، في صراع مع الحياة والرحيل والجوع والبرد والحزن..
من قال إنّ الموت هو رحيلٌ جسدي، ومواراة تحت التراب؟ الموت هو ثقافة أتقنتها بلادي الحزينة، هو تراكمات تفوق وجع الردم المتثاقل فوق أجساد الأطفال والضحايا، فأي مشهدٍ بإمكانه أن يشعل ضمائر الإنسانية أكثر من طفلةٍ تلتحفُ الصخرَ، وتترك راحة كفّها كمسافة بين الصخور، ورأس أخيها لتحميه من موتٍ مُحتّم، أي شيءٍ يمكنه أن يستنفر الإنسانية أكثر من أمٍّ تودّع الحياة، وتترك حبلاً سرياً معلقاً لطفلٍ بدأت حياته لتوّها من تحت الركام.
في تلك اللحظات الغارقة بين الحقيقة والخيال، تسنّى للناجين كتابة وصاياهم، فحين مرّ الاهتزاز عابراً في أولى لحظاته، لتتمادى اللحظات في غيّها المرعب، يبدأ التضرعُ، والاهتزاز لا يزالُ يقودنا نحو المجهول، وكأنّ الوقت تطاول كفم تنين، وصار لكتابة وصايانا منه متسع.. أما الذين قضوا فلربما خانتهم أصابعهم في كتابة وصاياهم، فرأيناها مكتوبة على وجوههم المعفرة بالدم والتراب.
(كلهم بخير إلّا أنا): أي ألم تختزنه ثنايا حروف هذه العبارة لشابٍّ فقد أفراد عائلته كلهم، ووحيداً بقي يلوكُ وجعَ الفراق والحزن والوحدة واليتم.. عبارة جعلت الموت يتوزع كالريح في كلّ حنايا الوجود.
وكان لما كتبته الأديبة أنيسة عبود وقع خاص عن لحظات عاشتها مع وقوع الكارثة:
لحظة
كانت
بيني وبين النهايات
لحظة
تتضارب الأبواب وتخرج عن صمتها المكتبة
وأنا يفصلني شهقة
عن آخر العتبات
ماذا يجري؟
كيف أفتح نافذة في الظلام
وحدي أفجّ الركام
وأذكر آخر الاسماء
وكم في القلب من أسماء
ياه
هل سيحق لي أن أغمرها
قبل أن تنتهي اللحظة
وتصير سراب
..
لحظة
هي
أمد يدي لأبعد الموت
أخرج
وفي الخارج موت
السماء تسقط
والأرض تلاطم بعضها
والرعد يقصف
والريح تلف الأرواح وتهرب
وأنا
سيهرب الموت مني
وأنزل ساحة العراك
هي لحظة
نعم
كيف أصف لك أيها الزلزال
تركت ورائي عمري
وأخذت في قلبي الأحباب
ثم
ثم أغلقت الكتاب.
هكذا في بلاد الأمل والحياة؛ ينام الفرح على تكيّة الهم بأيدٍ متراخية هدّتها السباحة عكس التيار، أفرغ التعب كلَّ حمولتها فوق صدرها المتكسرة عظامه.
لا أعرف يا سوريتي الحبيبة كيف لجسدك المريض أن يحتمل المزيد من الطعنات، حرب ومرض وكوارث وحرائق، وقلوب آثمة تستلذّ بغرز مديتها وحرابها في قلوبنا، لا تأخذها بنا رحمة رغم هول مصابنا وصراخنا، رفقاً بنا أيّها الكون، فنحن بشر رغم تعالينا على الجراح..
وهذا شاعر عربي -بلفرد جمال- يستصرخ العرب فيما آلت إليه أحوالنا :
الشام تبكي من الأوجاع والكمد
حربٌ وقتلٌ وتشريدٌ بلا عدد
وزادها اليوم زلزال على مضض
والعرب لا صولة بالعون والمدد
قوموا ارحموا أهلنا بالشام يا عرباً
ودعكم اليوم من غلّ ومن حسد
لن يرحم الله أقواماً وما رحموا
أهلاً من بقاع الأرض والبلد..