المبدعون السوريون والزلزال
تشرين- علي الرّاعي:
“أوه.. ما أعظم بَلِيّتكِ يا سورية!”، ذلك ما تنهّدت به روحه يوماً الشاعر السوري الأعظم – كما يصفه الشاعر نزيه أبو عفش – جُبران خليل جُبران (1883 –1931م) ذات حين من أيام النصف الأول من القرن العشرين، ذلك الشاعرُ، والكاتبُ، والفيلسوف، وعالم روحانيات، الذي كان ينظر لسورية الحزينة قبل أن تتوزعَ أقاليم وهي تئن تحت الاحتلال الجائر من الأتراك.
وقدرُ سورية كان دائماً مع البلايا، سواءً كان بالاحتلالات البغيضة، أو بالهجمات الظلامية، وحتى بالكوارث الطبيعية.. فها هو أيضاً شاعر النيل أحمد شوقي، يُخاطب دمشق في إحدى محنها:
سَلامٌ مِن صبا بَرَدى أَرَقُّ
وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
وَمَعذِرَةُ اليَراعَةِ وَالقَوافي
جَلالُ الرُزءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ
وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي
إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَداً وَخَفقُ
وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي
جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ
تلك البلايا التي أصابت الشام، كان دائماً لها وجعها الخاص عند المُبدعين السوريين، وعندما نقول (السوريين) نعني سورية، كما كان يراها جبران خليل جبران بكامل سوريتها، فها هو الإعلامي النبيل جورج قرداحي، يحثّ العرب جميعاً على تأكيد موروثهم في “صلة الرحم”، وحقّ «الأقربون الأولى بالمعروف»، ويخاطب سوريته حزيناً: “أما آن لهذا الليل أن ينجلي؟!”، فيما زميلته الإعلامية في الروح السورية سمر أبو خليل تُغرّد، ومن دون أن تبتعد عن مناخات قرداحي الحزينة: “الإنسانية لا تُجزّأ ولا (تُسيّس) ولا (تُطيّف)”!!
كيف راح يشرح لنا المجتمع الدولي والعربي فائض الإنسانية تجاه تركيا والتعامي عن سورية المنكوبة والمنهكة؟ و«دولتنا تبع “النأي بالنفس”حدا يقلها إنو سورية أحقّ وأقرب من حبل الوريد.. مش وقت تصفية حسابات سياسية ورضوخ! سورية خيرها سابق..”. وعلى صفحته في «فيسبوك» يكتب سامي كليب: “أرجو إعلامنا بما يمكن القيام به لنجدة إخوتنا السوريين من كارثة الزلزال.. فهم ما قصّروا بحق أيّ عربي في تاريخهم، قلوبنا معكم”.
أما الشاعر نزيه أبو عفش، الذي تمزقت مشاعره بين عتبٍ وخيبة، من تقاعس بعض العرب وترددهم، مؤكداً أنه ليس للسوريين غير السوريين، فيكتب: “حين يَتضوّر “السوريُّ” من الألم، لا يحزن لآلامه أحد. حين يبكي السوريّ، لا تتلألأ بارقةُ دمعٍ في عينِ أحد.
حين يسيلُ دمُ السوريّ، لا تَطلعُ تنهيدةُ أسى من حَلقِ أحد.
بل حتى حين يفعلُها السوريّ ويموت، لا يأبه بجثمانهِ أحد؛ يتركونه مشلوحاً في العراء الكونيّ كي لا يعترفوا به “بَشراً” ويكونوا شهوداً على موتِ إنسان.. إنسانٍ كانوا هم قتَلَتَه أو شركاءَ في قتله.. لكنْ، بعد أنْ يتمّ دفنُ السوريّ، يجعلون من سقفِ قبره منصّةً للنواحِ والتباكي على ما آلت إليه العدالةُ والحريّةُ وحقوقِ الدابّةِ – الـ.. إنسان.
حين يموتُ السوريّ في الصمتِ، ويُقبَر في الصمت، لا أحدَ يعرف (لا أحدَ تعنيه معرفةُ) أنّ قلبَ العالَم – ذاك الذي كأنما قلبُه بين أضراسه- صارَ مهَدّداً بالاقتلاع، بلَ أصبح مُستَحِقّاً له”.
ولم يكتفِ المبدع السوري فقط بالحثّ على مساعدة السوريين لبعضهم، فبعض القادر منهم تبرع بماله – سلاف فواخرجي، وائل رمضان، حسام جنيد، أمارات رزق، سعد يكن، وغيرهم.. فيما البعض الآخر من الفنانين التشكيليين دعوا إلى إقامة معارض تشكيلية يذهب ريعها لمصلحة المنكوبين من الزلزال، كما فعل كلّ من: طلال معلا، موفق مخول، سنا الأتاسي وغيرهم. يكتب الفنان والناقد التشكيلي أسعد عرابي: “على الفنانين أن يتهيؤوا للتبرع بواحدة من لوحاتهم للجمعيات الخيرية الموثوقة وبسرعة ليتم بيعها في مزاد عام”. ولم تبتعد كثيراً الفنانة عناية البخاري عن دعوة عرابي، فتكتب: “أدعو الأصدقاء الفنانين وأصحاب صالات الفن التشكيلي إلى إقامة معارض فنية يذهب ريعها للمتضررين من الزلزال وأنا أول من يشارك، مع الشكر لكل من يساهم بهذا العمل الخيري”.
يكتب الشاعر عصام التكروري:
أمّــا وقَـدْ أصـبـحـتِ تســكُـنينَ وجُـــوهَـنـا
” كـحـبَّـةِ حَـــــــلَـبْ “،
فســـنحـكُمُ عـــلى أنفســـنـا بالابـتســـــــامِ الأبَـــدي،
عـــــارٌ علــــينا أنْ يتـــراءى للشـــامـتـين بـــأنَّــكِ
ـ يـا ســــــــــوريـة ـ مـا عُــــدّتِ “غــــمَّـازة”.
فيما فتح الكثير من الشعراء بيوتهم لاستقبال عشرات العائلات المنكوبة التي أمست في عراء شباط.. شعراء وشاعرات شكلوا ما يُشبه لجاناً، وأصبحت صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي دليلاً لكيفية الاستفادة من المساعدات التي يُقدمها السوريون لبعضهم، الشعراء: أحمد نصرة، عبير سليمان، سارة حبيب، وغيرهم.
تكتب الشاعرة عبير سليمان: “أتخيّل روح السوري الذي قضى تحت الأنقاض وهي تبصق على جميع أنظمة الدول مُدعية الإنسانية وأنصارها من صبيان وبنات أشباه ليبراليين، وعلى جميع الأنظمة مُدعية نصرة الإسلام وأزلامها ونسوانها من سلفيين، ذلك عندما ترى تلك الروح طائرات الإغاثة تطوف حول سورية نحو تركيا من دون أن تمر بها بسبب الحصار الوغد والعقوبات النذلة، وعندما تسمع تلك الروح الذين ينتقون مدناً محددة يأسفون لمأساتها ويشمتون بغيرها”.
ونختم مع الشاعرة والروائية أنيسة عبود في هذه المناجاة:
لم تعد يا بحر صديقي
كيف لك أن تظل واقفاً
مبتسماً تتسلى مع أمواجك
العاتية
تلعب «الغميضة » مع الزلزال
ونحن قلوبنا في العراء
تبعثر شهقاتها في المطر .
عادة
الجار يسأل عن جاره
والورد يسأل عن عطره
والنوافذ
تركض خلف الأحباب
وأنت رابض في صمتك
في حياديتك
أمام الغول الذي ينهش ضحكاتنا وسلامنا وحياتنا
والله يا بحر
أما حزنت على الأطفال
حين مالَ الدهر على تغريدها
وعمر حاراتنا من القهر سال؟
حيرتنا
نبكيك
أم نبكي علينا..
جارتك
جابالا الموشاة بالبرتقال خاوية
هجرتها النوارس والحدائق والأغنيات
حتى المآذن مالَ صوتها
والصلاة بكت على آياتها
آه يا مدينتي
يا أهلي
يا سورية
يا وطني المنكوب
أمهلنا
لا تذرف ورقك الأصفر
حتى نغطي أشلاءنا
ونكفكف أعمارنا
ونصرخ في وجه الآه
لنا الله
لنا الله.