خمسُ دقائق مع الموت
تشرين- نضال بشارة:
دفعتنا ليلة الزلزال وقبل أن يأتي فجر يوم الإثنين، بما عشناه من رعب حقيقي مدة دقيقة أو خمس دقائق أو سنة، لا نستطيع أن ندّعي أننا أدركنا الزمن ليلتها، دفعتنا إلى استعادة كل الخوف الذي عشناه في سنوات الحرب، وكأنه لحظة واحدة من شريط سينمائي، حاول فني « مونتير » عشقنا للحياة، أن يكثّفها لنا، فاستعدنا المرات التي لامسنا بها الموت إلى درجةٍ كأننا تآلفنا معه فتهيأ لنا أنه لم يعد يرعبنا. وقد شاهدنا في الشريط أن ثلاثاً منها، كادت طلقات القناص أن تُسقطنا أرضاً، فاتّخذنا قراراً ألا نخرج من البيت غير بعد أن يُرخي ليل الحرب ظلاله، حتى نسعى خارج الحي، لشراء ما يجب من طعام وخبز ودواء.
ولم يسعفنا الشريط بعدد المرات التي أخطأتنا قذائف وشظايا الهاون، أو عبوة ناسفة في «سرفيس» نقلٍ داخلي، كما أخطأتنا الأشد خطراً، ألا وهي السيارات المفخخة، التي قد تصيبك شظية ما بسببها، ولو كنت على بعد 500 متر منها، وفق شدّة المادة المتفجرة المحشوة بها ووزنها. لكن ذلك كله كان يزول بسرعة البرق ما إن يحدث الانفجار أو تسقط القذيفة، وتجد نفسك سليماً معافى، وتطمئن إلى أنك ما زلت حياً من دون أن تفكر لحظة أن هذا ثمنه غيرك وقد زهقت روحه، وافتداك بها.
وما إن تصحو لذلك، تسعى لأن تفكر كيف تخدّر إحساسك بهذه الأنانية المنفّرة، وهذا كان يتكرر كثيراً حتى في كل اتصال من صديق أو قريب ليطمئن عنك. لكن كل ما مضى في كفة ميزان وما نسجته ليلة الزلزال فينا من رعب بكفة، فأنت في حال غير مفهومة من الخوف، ترى بيتك كيف يتأرجح هو وما بداخله وتدرك أنه قد ينهار ولا تعرف كيف ستتصرف، كأن ثمة قيداً قد كبّلك إلى الجهات كلها، فلم تعد تستطيع الحركة ولا الكلام، ولا أن تتفقد أمّك العجوز المريضة خوفاً من أن ترعبها فتربكك، فتصِّمُ أذنيك عن استغاثتها، وتحاول، فلسفة خوفك، قبل أن تدرك بعد ساعاتٍ أن أبنيةً قد انهارت فوق ساكنيها، وأن ثمة ضحايا كثيرين قد رحلوا في حلب واللاذقية وجبلة وحماة، وفي مدن عربية أخرى وغير عربية، لأرواحهم السكينة والسلام، وبعض الضحايا مازال مفقوداً، كل ذلك خلال شريط تستعيد فيه كل ما سبق من خوفك من محاولاتٍ فاشلةً للموت ليوقعك في فخه وحفرته، ونجاتك منها خاصة في وعكة صحية لامست تلك الحفرة ثواني معدودة، ولا يُنقذكَ دائماً غير ضحكةٍ واستعادةَ ما قلته للطبيب حينذاك:
أنا نجوتُ من كل ذلك، لأنني لم أقرر الموتَ بعدْ.