سليمان العيسى بين قبوين.. إطلالة على “الديوان الضاحك”
تشرين- زينب عز الدين الخيّر:
هذا الأسبوع حلّ ضيفاً عزيزاً علينا منخفض جوي، نحتاجه جميعاً، تحتاجه أرضنا وينابيعنا وأشجارنا، لكن الاهتمام مضى باتجاهٍ آخر؛ فقد طافت شوارعنا، طافت الساحات ومداخل الأبنية، وعبَّرتْ أزمة المواصلات عن نفسها أفضل تعبير، وترى الناس بدل ابتهاجهم بالمطر، يتناثرون محبطين على أطراف الأرصفة.
تذكرت أبيات الشاعر سليمان العيسى وهو يحكي عن طوفان بيته؛ الأبيات واردة في ديوانه الضاحك الذي صدرت طبعته الأولى في اليمن عام /2004/ بأكثر من ستمئة صفحة، وذلك خلال تتويج صنعاء عاصمة للثقافة العربية، كما أصدرت الهيئة العامة السورية للكتاب طبعةً موجزةً منه في العام/2009 / في مئتين وستين صفحة.
يقول الشاعر سليمان العيسى في مقدمة ديوانه الضاحك :”كان رفيق العمر صدقي إسماعيل رحمه الله الأستاذ والإمام في هذا الشعر الضاحك الساخر، لا ينازعه في ذلك منازع، وفي جريدة (الكلب) الذائعة الصيت التي كان يصدرها شعراً ويكتبها بخطِ يده المثال الأسود والشاهد الحي، وكنتُ من محرريها البارزين”.
لقد توقف الشاعر طويلاً عند أهمية هذا الديوان فهو يقول في أحد لقاءاته الصحفية: “لا أدري لماذا يهمل النقاد والدارسون هذا الديوان إنه يمثلني خير تمثيل، أتمنى أن يقف عنده في المستقبل من يريد أن يرسم ملامح سليمان العيسى كاملة”.. الديوان مليء بالمفارقات، بالدهشة الجميلة، بالنقد المرِّ، بالهجاء الصريح، ومن هنا يكتسب خصوصيته، حيث يهجو فيه الحظ، والزمن، والظروف، والإمكانات المتاحة، ولا بدّ من أن يُعرج قليلاً على ديار السياسة.. مؤكد أن الفصل بين الهجاء والفن الساخر أمرٌ متعذر، فالمزاح -عموماً- جديٌ بما يكفيه، ويطوي خلفه صفحات من عذابات شخصية، واستنكار لواقع مرفوض، ومؤكدٌ أيضاً أن مجتمعاً لا سخرية فيه، ولا نكتة، هو مجتمع مريض ومكبوت. يؤكد الشاعر هذه الفكرة بالقول:
(وتعددتْ لكمُ فوائدهُْْ
ديواننا زادتْ قصائدهُ
ليريحنا مما نكابدهُْْ
شعرٌ تسلينا به زمناً
فُهمتْ بلا تعبٍ مقاصدهُ
إن تقرؤوا ما خلف نكتتهِِِ)
من اللافت أيضاً أن الشاعر قدَّم لكل قصيدة بذِكرِ سبب كتابتها، فعندما سكن في مدينة حلب في العام/ 1954/ كانت سُكناه في شقة بطابق القبو، وذات شتاء ماطر فاضت البلاليع، والطرقات، ولم تعد المصارف قادرة على تصريف المياه، وفاض القبو الذي يسكن فيه الشاعر فيقول:
(كسحتْ بيتي مجاري البلديةْْْ
من جديدٍ أنا في القبو ضحيةْ
كلما دقَّتْ مزاريبُ العشيةْْ
رحمةُ الله استطابتْ غرقي
بعد نصف الليل سَطلي في يديَّهْ
ليت أقراني رأوا شاعرهم
داخلَ البيتِ لأشعاري هديةْ
أنزحُ الماءَ ويبقى نصفه
سبحَ الكرسِّيُ عامتْ مزهريةْ
نبعَ الحائطُ طافتْ غرفةٌ
إن يُزِلْ عن أمتي بعضَ البليَّةْ
أنا بالطوفان راضٍ فرحٌ)
والمفارقة أن الشاعر بعدما سكن قبواً في حلب انتقل إلى دمشق ليعيش في قبوٍ ليس بأحسن حالٍ من الأول، ولينظمَ فيه مدائحَ يستحقها:
(ضيقٌ لا يهمني أو رحيبُ
يا قصورَ الفيحاء حسبيَ قبوٌ
يهرمُ الدهرُ قبله أو يشيبُ
أنا أبني بيتاً بلمحةِ عينٍ)
ويفيضُ القبو في دمشق أيضاً، فيقول:
(أعيذُكمْ من مزاريبي ومن مطري
على المزاريبِ أصحو لا على الوتر
وإن تبحبحَ فيها مجلسُ السَّمرُ
قبوي على العهدِ صوفا جِدُّ ضيقةٍٍٍ
أُضيئُها ببقايا النور من بصري
لا يلمسُ الضوءُ ضوء الشمس ظلمتَها
وتحملان هوى الدنيا على الصِّغر
وغرفتان كقلب الطفل حجمُهما
رصداً وجازاً وموسيقا من الغجرِ
يُغردُّ الدَّلفُ في أرجاءِ منزلنا)
ولا يترك الشاعر نفسه ولا شعره من دون سخرية فيقول عن إبداعه:
(يُـقـالُ بـأَنَّنــي أبْـدَعْـتُ..
دَعْنــي أَقُـلْ لـكَ مـوقِعــي فـي الخـائبينــا
سِوى فِنْجـانِ قهـوتِنــا صبـاحاً مِـنَ الأعمــالِ..
لمْ أُتقِنْ سِنينـا
وإنْ كُـلِّفْــتُ أنْ أبتــاعَ شَيئـــــاً فَتِلْكَ مُصيبـــةٌ.. سَتحِـــلُّ فينا
سَـأُعطي البـائِـعَ الضِعفَينِ سَهْواً وأَرجِــعُ..
بالمَصـــاعِبِ مُسْـتَهينا
وأَنْسـى وَجْـــهَ مَـنْ ألقـى سَـريعاً ويَعْذِرُنــــا الصِّحــابُ إذا نَســينا)
ولما أراد أن يغلق نافذة صغيرة فوق الباب اتقاءً للحَرِّ والغبار، يسقط على حافة الأريكة العتيقة الضيقة ذاتها، فتكون حصيلة هذا السقوط: ثلاثة أضلاع مكسورة.. وقصيدة:
(مثل بيتٍ لشاعرٍ جِدَّ واعي
الضلوعُ الثلاثُ منحطماتٍ
ويستأنفُ الغناءَ الراعي
مثل شبابةٍ تَطيحُ على الصخرِ
من سرورٍ يُلهي عن الأوجاعِ
وضحكنا مع الصُّحابِ قليلاً
تؤذي حتى وزيرَ الدفاع
وقعةٌ مثل وقعتي تؤلم الإنسان)
هذا غيضٌ من فيضِ ما ورد في الديوان الضاحك، الذي أدعوكم للاطلاع عليه، أما عن جريدة الكلب، تلك الظاهرة الاستثنائية، فلنا حديثٌ آخر.