عن متعة اللغة وجنون التفكير وألم الكتابة!
تشرين-جواد ديوب:
تقول الحبيبة لحبيبها: “وهبتُكَ أغلى ما أملك؛ قلبي “، يقول الكاتب للورقة: “وهبتُكِ أكثرَ ما أستطيع؛ عقلي”، يقول العاشق لحبيبته: “أهديتك أجملَ ما عندي؛ شِعري”، تقول الكاتبة لقرّائها: “أهديتكم أثمنَ ما يُهدى؛ أسرارَ قلبي”…
هكذا هما العاشق/الكاتب، والعاشقة/الكاتبة؛ ظلاّن لقلب واحد، ، شطرا بيتٍ من الشِّعر، حرفان من كلمة هي كل الوجود: الحب.
لا يلزمُ الكاتبُ، في تعامله مع اللغة، التسلّحَ بالعديد من الأدوات، ولا بإكسسوارات كالأغراض التي يضعها المخرج بدقة على خشبة المسرح ليكتمل المشهد أو الفعل الدرامي، ما يحتاجه هو الرقة والحنان والصبر والحكمة، فلا يهجر لغتَه/محبوبتَه فتهجرُ سماءَ أحلامِه، ولا يحاصرها أو يقسرها فتجفلُ وتنتفضُ أفراسُ حريّتها نحو رحابةِ أن تكونَ على طبيعتها وتلقائيتها.
ربما هي صورةٌ ورديةٌ حالمةٌ تلك التي رسمتُها فوق، لكن الواقع، دائماً، هو شيءٌ غيرُ قابلٍ للشعريّة واللطف؛ لأن التمزّق والتردد والنوسان بين أن يكون كما يشتهي، أو أن يكون كما يريد له الآخرون، مع المحاولات اللاهثة العبثية أحياناً، لترميم صورته أمام نفسه…هي كلّها سماتُ المتعامل مع اللغة، مع اللغةِ الجارحة، البارعة في التخفّي والتحوّل والتأويل.
وبقدر ما يكشف الكاتب والكاتبة عن وجْدهما باللغة، بقدر ما تُعْجزهما تلك اللغةُ نفسُها عن أن يكونا حقيقيين واقعياً، فاللغة حجابٌ، حمّالةُ أوجهٍ، تجعلُ المتعاملَ معها -لفرطِ حساسيتها أيضاً- يُجاهد في تأمّلها وتأمل ذاته داخلها، وتأمل الوجود من خلالها، فيقع في مصيدتها كفراشةٍ في شبكة عنكبوت!
بمعنى آخر.. إن وعي الإنسان لذاته وللآخرين وللعالم الماديّ من حوله، يتمظهر لغوياً، فاللغة تفكيرٌ في الموجودات، وخِبرةٌ يراكمها عِبرَ المعيش واليوميّ، ما يُنتجُ لديه معرفةً بوساوسِه وهواجسِه ومكنوناتِ ذاكرته، معرفةً تُحيلُهُ إلى العلاقة بين الوجود والعدم، بين وجودِ “الأنا” وانعدامها، وكل ذلك يقوده -من دون شكّ- إلى شقاء التفكير، وأحياناً إلى الإحساس بعبثية الوجود، وفي النهاية إلى شيءٍ من الجنون، لأن اللغة نفسها عاجزةٌ عن إدراك “الحقيقة” أو “الحق” -بحسب تعبير الصوفيين- أي إن العقل نفسه قد يخطئ طريقَ المعرفة، وما من وسيلة لمعرفة الحقائق /الكونية إلا عبر التجلّي والكشف (الإشراق والعرفان) ولذلك صرخ الشيخ محي الدين ابن عربي قائلاً:
“العقلُ أفقرُ خلقِ الله فاعتبروا/فإنه خلف باب الفكر مطروحُ
إن العقولَ قيودٌ إِنْ وثقتَ بها/ خسِرتَ فافهم فقولي فيه تلويحُ”
هكذا هو الكاتبُ هشٌّ، رقيقٌ، زائدُ الحساسية، سريعُ الذوبان كلّما قاربتْهُ حرارةُ الاحتكاك بالآخرين. رجلُ ثلجِ اللغةِ هو، والكاتبة/الشاعرة زهرةُ هندباء رقيقةٌ تتطاير مع أقلّ نسمة، لكنها تنثر روحَها مئاتٍ من الزهرات الرقيقات في كل مكان حولها… ولذلك تستدرجهما الكلمات المُقالة همساً، والموسيقا التي تُهسهس، ويطفوان كريشة على وجه الغمر، خفيفين يهوّمان في أبخرة الأبجدية، تؤلمهما “الحقيقة”، وتوجعهما البشاعة مثل الجرح.
ولذلك، نجهل، أحياناً كثيرة، كيفية التعامل مع الكاتب، من حيث هو كائنٌ بقدر ما يلتصق بالواقع بالتفكّر فيه وإعادة موضعة حيثياته كما يراها في محرق عقله، بقدر ما هو بعيدٌ عن الواقع عملياً، أو لجهة الفعل الماديّ البحت، لدرجة أن إصلاحَ قفل خزانة أو حتى فتح علبة “سمنة” تبدو له أحياناً شيئاً صعبَ التحقق، ويبدو هو لحظتها في عين الآخرين كأخرقَ يغرقُ في كأس ماء.
وباللغة الورديّة تلك، يمكن القول إن “الواقع” هو القلم الذي نكتب به؛ السِّحرُ هو الحبر الذي تتشكل منه اللغة.. الواقع هو الفرشاة الصلبة؛ الشِّعرُ هو اللون الذي نرسم به لوحةَ أعمارنا… فاللغةُ متعةٌ، والكتابة ألم. اللغة أداةٌ سحرية تحوّلنا إلى حماماتٍ تخرجُ من قبعة الساحر؛ الكتابةُ هي الشقاء، والإهانات، والخيبات المرّة، والفشل في الموسيقا، والعجز عن الرقص مع من نحبّهن ولا يحببننا، وهي فقدان ملامح الوجه في مرآة الآخرين… أبعدَ كلِّ هذا يوجد من يرغب في أن يصبح كاتباً؟ أو أن تكونَ شاعرةً؟
فمن يريد ذلك، عليه أن يتعلّمَ المشيَ على النار – ولا يحترق، وأن يمشي على الماء – ولا يغرق، أن يُظهِرَ معجزاتِه للعالم… فاللغةُ وحيٌ، والكاتبُ نبيٌّ لا كرامة له في قومه.